العدالة الإنتقالية في تونس.. مسار ملغوم
عادل الثابتي
في جلستين صاخبتين تخللتهما مشاحنات وملاسنات، صوت البرلمان التونسي، قبل أسبوعين، برفض التمديد لـ”هيئة الحقيقة والكرامة” المعنية بملف العدالة الانتقالية بالبلاد.
و”هيئة الحقيقة والكرامة” هي هيئة دستورية مستقلة، معنية بتنفيذ قانون العدالة الإنتقالية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في عهد الرئيسين التونسيين السابقين، الحبيب بورقيبة (1956ـ1987)، وزين العابدين بن علي (1987ـ2011)، وفترة ما بعد ثورة 2011 وحتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2013.
قرار برلماني فجر جدلا صاخبا حول المسارات المحتملة للهيئة ولملف العدالة الانتقالية عموما، ويأتي عقب إقرار الهيئة، نهاية فبراير/ شباط الماضي، تمديد مهمتها حتى نهاية عام 2018، عوضا عن 31 مايو/ أيار المقبل، ورفعت الأمر إلى البرلمان.
وفي 26 مارس/ آذار الماضي، رفض 68 نائبا من كتلة حزب “نداء تونس” (ليبرالي/ 55 مقعدا بالبرلمان من أصل 217)، وحزب “آفاق تونس” (ليبرالي /7 مقاعد) وحركة “مشروع تونس” (ليبرالي/ 21 مقعدا)، طلب التمديد في ولاية الهيئة، وتحفظ نائبان.
فيما انسحب من الجلسة ذاتها نواب من كتلة حركة “النهضة” (إسلامي/ 68 مقعدا)، الشريك الأساسي في الائتلاف الحاكم مع نداء تونس، والجبهة الشعبية (يساري/ 15 مقعدا)، والكتلة الديمقراطية (12 مقعدا)، حيث لم يشاركوا في عملية التصويت، معتبرين أن إنعقاد الجلسة “غير قانوني”.
هيئة الحقيقة والكرامة.. “مستهدفة” ؟
ردّا على قرار البرلمان، أعربت رئيسة الهيئة الحقيقة، سهام بن سدرين، خلال مؤتمر صحفي عقدته بعد يومين من تصويت البرلمان، رفضها لنتيجة التصويت.
وقالت إنّ “التصويت الذي جرى (في البرلمان) لا يهمنا، ونحن لسنا طرفا في هذا الصراع، وسنتخذ المبادرات المناسبة في هذا الشأن، وسنستكمل أعمالنا ونطّبق القانون وعهدتنا في مساءلة القائمين بالإنتهاكات (لحقوق الإنسان)، وإصلاح المؤسسات”.
وأضافت بن سدرين أن الهيئة تلقّت 62 ألف و711 شكوى بانتهاك لحقوق الإنسان، وأنها نظرت في 52 ألف و864 منها.
كما أشارت أنّ “الهيئة اتخذت قرار التمديد (لمهمتها التي تنتهي في مايو/أيار المقبل)؛ بسبب العديد من العراقيل التي واجهتها، خاصة أنّ “بعض مؤسسات الدولة امتنعت عن تطبيق القانون، من وزارات ومحاكم وبرلمان وغيرهم في التعامل مع الهيئة”.
أما حزب “نداء تونس” الذي قاد المعسكر الرافض للتمديد لعمل الهيئة، فقد حمّل في بيان أصدره عقب التصويت، مسؤولية “فشل عمل الهيئة إلى رئيستها (سهام بن سدرين)، واصفا دور الأخيرة بـ “المختلّ والمشوّه”.
وأكد البيان احترامه لمسار العدالة الانتقالية بـ”اعتباره مسارا جوهريا متكاملا لا يمكن اختزاله أو تلخيصه في هيئة الحقيقة والكرامة”.
ويرى مراقبون أن “نداء تونس” لطالما كان ينظر بعين الريبة لدور هيئة الحقيقة والكرامة، وقد تصاعدت شكوكه مؤخرا بكشف رئيسة الهيئة عن وثائق حول استقلال تونس، ما اعتبره الحزب “تشكيكا في استقلال البلاد ورموزها المؤسسين، وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة”.
العدالة الإنتقالية على المحك
حسين بوشيبة، منسق حملة “ملفي آش صار فيه هيئة” (ما هو مصير ملفي)، التي تجمع تحت لوائها 11 جمعية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في عهديْ بورقيبة وبن علي، اعتبر أن ما يحدث هو “تطويع لمسار العدالة الانتقالية لإرادة منظومة عائدة (في إشارة لرموز نظام بن علي)، تريد التحكم في مسار العدالة الانتقالية وتجييره لصالح أهدافها”.
واعتبر بوشيبة، في حديث للأناضول، أن “العدالة الانتقالية تمثّل فرصة للجلادين للخلاص من مسؤولية ما حدث، والحصول على شعور براحة الضمير باعتبار أن العدالة الانتقالية توفر المصالحة مع الذات، وفرصة للعيش المشترك، ودولة يحترم فيها الإنسان ويعلو فيها القانون”.
ووفق بوشيبة، فإنه من حق الهيئة التمديد، وذلك استنادا للمادة 18 من قانون العدالة الإنتقالية، منتقدا في الآن نفسه، رئيسة الهيئة التي قال إنها “أحدثت زوابع في المسار، لأنها لم تتناول الإرث الثقيل للماضي الأليم بشيء من السلاسة والحكمة وتقديم الأولويات”، على حد قوله.
وخلص إلى أن بن سدرين “تتحمل جزءا مهما في ما آل إليه المسار، بخروجها عن جوهر العدالة الإنتقالية، كما أنها تواجه إشكالات مع عدد من الضحايا الذين سعت إلى تقسيمهم، فقرّبت منها مجموعة منهم وأبعدت أخرى، ووصل الأمر إلى داخل الهيئة بإحداث خلافات مع عدد من أعضائها”.
وأواخر يناير/ كانون الثاني الماضي، نفذ ائتلاف حملة “ملفي آش صار فيه يا هيئة”، وقفة احتجاجية أمام مقر الهيئة، طالب من خلالها، بالكشف عن مصير الملفات التي أودعها آلاف الضحايا عند الهيئة.
وفي ذات الصدد، تابع بوشيبة: “نحن جمعيات الضحايا، نحمّل المسؤولية أيضا للسياسيين، ونخاف على مستقبل التعايش المشترك في وطننا عقب قرار البرلمان، ونخشى أن يؤثر ذلك على التوافق القائم في البلاد”.
ولفت إلى أنه “في حال لم يتم تسوية الخلاف في الأطر القانونية، فإن الأمر سيصبح خطيرا، خاصة أن بلادنا تعيش صراعا مع الإرهاب، وتعاني من مشاكل في التنمية والتشغيل، والعدالة الانتقالية تشكّل رافعة للانتقال الديمقراطي السلمي والسليم الذي يقودنا نحو مصالحة حقيقية”.
«مؤتمر دولي لإنقاذ المسار»
من جانبه، رأى الحقوقي التونسي عمر الصفراوي، أنه وقع “تهميش العدالة الإنتقالية في تونس”.
وقال الصفراوي، وهو رئيس “التنسيقية المستقلة للعدالة الإنتقالية” (مستقلة)، التي تضم ائتلاف جمعيات ومنظمات، منها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل، إن “النصاب القانوني للهيئة غير متوفر بما يسمح لقراراتها أن تكون قانونية”.
يذكر أن عددا من أعضاء الهيئة قدموا استقالتهم، فيما أقيل آخرون، ما قلّص تركيبتها من 15 عضوا إلى 9 فقط، بينهم الرئيسة، ممن لا يزالون يمارسون مهامهم.
ونبّه الصفراوي إلى أنه “مهما يعطي القانون من صلاحيات لهيئة الحقيقة والكرامة، فهي تظل مؤسسة من مؤسسات الدولة، وعليها الإلتزام بقرار السلطة العليا”.
وحمّل الصفراوي المسؤولية لرئيسة الهيئة، سهام بن سدرين، المسؤولية الأكبر، وكذلك أعضاء الهيئة، في عدم إنجاز الهيئة لمهامها.
وتابع: “نقدّر أن 50 بالمائة من عمل الهيئة لم ينجز ولن ينجز في الفترة المتبقية”، موضحا أن مهام الهيئة تنتهي في 31 مايو (أيار المقبل)”.
وأكّد أنه لا يقبل فكرة أن القانون يعطي الإستقلالية التامة للهيئة، ويمكنها من معارضة حتى قرارات السلطة على أعلى مستوى”.
وتوقع الصفراوي أن يغلق رئيس البلاد مقر الهيئة باستخدام قوات الأمن عند انتهاء مهامها في 31 مايو/ أيار المقبل.
واعتبر أن “مسار العدالة الانتقالية في خطر”، معربا عن أمله في الوصول إلى توافق، “رغم أن الإستقرار الهش المبني على تواجد الباجي قائد السبسي ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي قد ينهار إذا غاب أحدهما”.
ولتجاوز الصعوبات التي تواجه ملف العدالة الانتقالية، قال الصفراوي: “أقترح تنظيم مؤتمر دولي للتفكير في إنقاذ مسار العدالة الانتقالية، دون مشاركة من كان على رأس مؤسسات النظام السابق (نظام بن علي)”.
وأوضح أن المؤتمر ينبغي أن “يضم خبراء من تونس وخارجها، وممثلين عن السلطة لنرى ما هو الحل الأمثل للخروج بطريقة قانونية سلسة من هذا المأزق، ونحقق نتائج العدالة الانتقالية”.
وحذّر الصفراوي من أنه إذا لم يعقد هذا المؤتمر، فإن تجربة العدالة الانتقالية في تونس ستفشل”.
الأناضول