أبو يعرب المرزوقي
عجب بعض الأصدقاء من سكوتي في مسألتي هيئة الحقيقة والكرامة في تونس وفي مسألة «العودة» الرمزية التي تجري على أطراف الحاجز الذي فصل غزة المحاصرة عن فلسطين المحتلة كل فلسطين وليس الضفة وحدها. فهما يشتركان في الرمزية ويدعمان قولي إن الوطن العربي كله في نفس الوضع.
فقد سبق أن بينت أن كل قطر عربي من الاثنين والعشرين ينقسم إلى استسلام النخب الحاكمة في الضفة وهي تؤدي وظيفة حماية إسرائيل مقابل شروط حياة ذليلة فرضها وضع العرب ككل وقسم يحاول المقاومة بالطريقة الغزاوية وهي تؤدي وظيفة ضمير الأمة المحاصر فيه. وكان ذلك نموذج تفسير صار حقيقة بعد الثورة.
فأنظمة الثورة المضادة تحاصر كل الذين اختارهم الشعب لتمثيل إرادته بحرية بعد الثورة تحاصرهم بسند لا يختلف عن السند الذي تتمتع به اسرائيل من حماة هذه الأنظمة. ولذلك فليس بالصدفة أنهم جميعا بمن فيهم نظام بشار من العرب وإيران من غير العرب وكل مليشياتها التي تحارب الثورة.
ولست غافلا عن أن الكثير سيعتبر ضمي لبشار وإيران ومليشياتها إلى ما يشبه الضفة الغربية وهم يدعون الممانعة والمقاومة ومساعدة غزة. أليس هذا منك موقف طائفي من إيران وحزب الله وبشار؟
طبعا في الظاهر هذا الاعتراض صحيح. لكنه لا ينطلي إلا على من لم يفهم فضح الثورة للممانعة.
فرغم عنترياتهم كلنا يعلم الحقائق التالية:
1. هم يحاصرون الثورة بل ويحاربونها وهذا فرق مع الضفة الغربية لكن الوظيفة واحدة إذ هم بالحرب على الثورة يحمون إسرائيل من سلطان الشعوب وهو ما يعلل إصرار إسرائيل على بقاء بشار ومن يساعده لأنهم أضمن لها من شعب سوري تحرر تماما.
هم إذن يحاصرون بل ويفنون من يماثل غزة في فلسطين ومن ثم فهم يماثلون الضفة وظيفيا.
2. أما علة هذه الوظيفة فهي بينة: من يقود ما يسمى بصف الممانعة؟ أليس هو من يدعي أنه استرد ما كان أرضا تابعا لامبراطوريتهم قبل الاسلام؟ وماذا تقول الصهيونية؟ أليس استرداد حق يدعونه قبل الإسلام؟
3. ثم هل أنا الذي صرحت أم زورو إيران بأنهم تمكنوا من احتلال أربع عواصم عربية وطبعا معها قطرها كله ومعه السعي لتشييع سنته أو للفرز والتصفية الطائفية؟
4. وفي هذا المضمار فبمعيار احتلال الأرض إسرائيل لم تحتل بعد أكثر من قرن إلا أقل من 1 في المائة مما تحتله إيران من أرض العرب حاليا؟
وأخيرا:
5. أليست إسرائيل التي تريد إيران تمرير نفس الفعل بدعوى محاربتها إحتلالها لا يتجاوز الأرض التي تقبل الرجع بالتحرير في حين أن إيران تريد الأرض والروح بالتشييع العنيف سواء عنف سلاح أو عنف إغراء واحتلال الأرض مع احتلال الروح إذا حصلا لن يقبلا الرجع كما حدث في إيران نفسها.
فهي لم تكن شيعية قبل القرن السادس عشر. ومن يتصور الآن أنها ستعود سنية كما كانت فلا تحارب الإسلام كما صارت سياستها العلقمية عملا بفكر الفاطمية منذ الفتنة الكبرى إلى الآن فتحالف مغول الغرب مثلما حالف أجدادهم مغول الشرق في إسقاط الخلافة؟ وهم إذن يؤدون وظيفة العلماء العرب ولا فرق.
أعود إلى نفس الرمزية التي تمثل معركة غزة في معركة هيئة الحرية والكرامة. قارنوا ما يحدث في محاولات المصالحة بين حكام الضفة وثوار غزة سعيا من هؤلاء لضمان بعض الحذر من الظرفية وشروط البقاء وسعيا من أولئك لتمرير ما تتطلبه الوظيفة ببعض الشرعية من المقاومة.
إذا قرأنا المشهد التونسي بهذا المعنى فعندك حكام الضفة ومحاصرو غزة. ما يحصل في معركة الهيئة يجعل مؤديها من جنس محاصري غزة ومعارضيها من جنس حكام الضفة. فالمحاصرون يريدون ضمان البقاء في ظرفية عنف الثورة المضادة وسندها الغربي والمحاصرون يريدون إضفاء بعض الشرعية على وظيفتهم.
فكما أن حكام الضفة لا يستطيعون نفي الحاجة للمقاومة وإلا فهم سيفقدون كل شرعية وهم إذن في حاجة إلى الإبقاء على شعرة معاوية وشعب غزة لا يستطيع في الوضع الراهن القطع مع الضفة حتى لا يسهل تمرير صفقة القرن. هم بحاجة لمساندة الصمود الوطني حتى لو كان شعاريا يخفي ما يجري تحت الطاولة.
ونفس الأمر يجري في قضية الهيئة في تونس وهو في الحقيقة ليس خاصا بها حتى وإن صارت هي رمز العلاقة بين ضفة تونس وغزتها. فما يسمونه الاستثناء التونسي كذبة وكذبة كبرى: لأن حماة هذا النموذج يفرضون أمرين أن يصبح ذلك حقيقة واضحة وضوح علاقة الضفة غزة. هي موجودة لكنها ليست صريحة.
وحتى أكون صريحا وواضحا فإن دلالة ما يجري في معركة الهيئة يتكرر دائما كلما أراد من هم في وضعية حكام الضفة فرض اختيارهم بأن يجعلوا الإسلاميين الخيار بين وضع إسلاميي غزة أو أو الخروج من المشاركة الرمزية في الحكم. بمعنى أن شرط مشاركتهم فيه هي الإنتساب إلى حكام الضفة.
وحتى لا أظلم أحدا وحتى لا أدعي أني أدافع عن الثورة أكثر من غيري فلأقل إن النهضة لا تستطيع أن تكون غزية لعلتين:
1. لأنها لو فعلت لكان وضع ثورة تونس شبيها بوضع ثورة سوريا. وهذا أمر لابد من تجنبه مهما كانت الكلفة على صورتها.
2. ولأن المحافظة على أمل النجاح ولو نسبيا للبقاء بسبب الظرف.
وهو شبيه بما تسعى إليه غزة من المصالحة لضمان شرط البقاء أولا وثانيا للتخفيف من المحاصرة مع الإبقاء على الشروط الدنيا للمقاومة. والفرق الوحيد بين هذين العلاجين اللذين يمكن وصفهما بالدبلوماسية هو أن الإسلامين لا يمثلون ثورة مسلحة كما في ليبيا مثلا. الخوف أن يصبحوا كاليمن.
ذلك أنه لو -لا قدر الله- حدث الصدام في تونس لكان المآل في المغرب العربي شبيها به في الخليج. وتصبح تونس معركة دولية فعلية وليست كما هي حاليا دبلوماسية. ولهذه العلة كنت دائما مع ضرورة الملاطفة وربح الوقت حتى تفشل الثورة المضادة وتسترد شعوب الأمة إرادتها وسيادتها.
ولذلك فالمتوقع في قضية الهيئة هو الوصول إلى حل وسط: الإبقاء عليها شكليا لأن حكام الضفة بحاجة إلى شرعية الثورة فلا يريدون الاعتراف بأنهم من الثورة المضادة. وعزل ما يمثل ثورة غزة (بن سدرين) وتعويضها بمن ينتسب إلى حكام الضفة ككل حكام العرب المشاركين في الثورة المضادة.
ولما كانت الثورة في تونس ليس لها حقا من يمثلها بسبب عدم الصلح بين الأصالة والحداثة وتفتت شمل من يعلنون أن الثورة هم الذين قاموا بها فإن جل مثبطي عزم الثورة الشعبية هم الأحزاب المجهرية التي تتألف من «جنرالات» بدون جيوش همهم المزايدات الثورية في التلفزات والجدل الكلامي.