الدرس السوري الأخير: كيف اتفق كل العالم على إنقاذ السوريين.. بإبادتهم ؟
عبد الرزاق الحاج مسعود
حديث يخرج من زاوية لا تزال “قائمة” في ركن من رأسي. لمن يحتفظ ببقية صبر.
تلخيص:
تتحوّل سوريا شيئا فشيئا إلى “ثقب أسود” في ضمير البشرية وتاريخها. ويتمّ فيها اختبار نهائي لمقولة الخير والشرّ، فضلا عن التوزيع الجديد لخرائط الهيمنة والنفوذ الدوليّين بعد العودة الروسية العنيفة إلى الساحة الدولية من بوابة الإبادة بتواطؤ أمريكي وإقليمي وصهيوني وعربي يهدف جميعه إلى إجهاض الثورة السورية التي تمّ تشويهها وتصويرها على أنها إرهاب كلّها لتبرير تدميرها بوحشية تجعل من كلّ حلّ سياسي قادم بعيد تماما عن حلم السوريّين الأوّل الذي دفعهم للثورة.
تمهيد:
السؤال المحرج لكلّ خائض في الشأن السوري هو: هل يمكن تناول ما يجري في سوريا الآن، ومنذ سبع سنوات من الموت اليومي المكثّف، من خارج طوفان المعلومات الموجّهة والمتناقضة والناقصة والمعدّلة “جينيا”؟ وإن استحال ذلك هل يمكن أن نستسلم لما يريده هذا الطوفان المصنّع إعلاميا من أنه لا وجود لحقيقة في سوريا، أي لا وجود لشعب ولا لثورة ولا لاستعمار عالمي ولا لمؤامرات دولية على مشروع النهوض العربي ولا لعجز بنيوي في عقل عربي حائر بين التقدّم والنكوص؟
بين هذا وذاك تجب المحاولة.
مقدّمة:
طوفان المعلومات حول سوريا يريد أن يقول أن لا شيء هامّا يحدث في سوريا. أو أنه هامّ جدا إلى درجة أن لا أحد يستطيع إزاءه شيئا. وفي الأخير هو فقط بروفة صغيرة للقيامة. قيامة حاول خيال البشر وصفها في كتب كثيرة وعجز، فتواطأت ظروف عجيبة للتعجيل بتجريبها على أرض سوريا وشعبها. شعب، كأشباهه من شعوب العرب أو أكثر، جرّب استبداد الحزب المحتكر للحقيقة السياسية المطلقة، وجرّب دموية الزعيم القائد الملهم المصاب بجنون العظمة، وجرّب فساد العائلة الممسكة بكلّ مقدّرات الاقتصاد، ودموية المخابرات التي أذلّت معارضي النظام على اختلاف أفكارهم بكلّ وسائل القهر والتعذيب والتنكيل والقتل، ودفع أثمانا مهولة من أعمار نخبه السياسية والفكرية التي قدّمت لمسيرة النهوض والتنوير العربيين أسماء مميزة في الفكر والأدب والفنّ، مسيرة انتهت بانتفاض شعبي شامل حلم بتتويج انتفاض عربي تاريخي يطالب بتوطين نهائي للديمقراطية في هذه الرقعة المعزولة عن مسيرة البشرية نحو الحرية، فإذا بكل العالم (بفاعليه الدوليين الاستعماريين الكبار و”أشباه” فاعليه المحليين الموظفين موضوعيا لخدمة استراتيجيات أولئك الكبار) يتفق على أنه يفضّل العودة إلى التوحّش البدائي الشامل على تمكين العرب من حقهم في الانتظام الديمقراطي المدني الحديث.
سوريا، ثقب التاريخ البشري الأسود
كلّ العالم يوجد الآن في سوريا. ورغم ذلك لا أحد في العالم يعرف بدقة ما جرى ويجري هناك. ولن يجد من سيأتي من البشر إلى هذه الأرض وقتا لمعرفة ما حدث فعلا في سوريا. لذلك يمكن تلخيص الصورة بالقول أن كلّ أصناف البشر وكلّ الأفكار التي أنتجتها البشرية على امتداد تاريخها توجد الآن في قلب المحرقة السورية، لكأن قِدْر التاريخ يغلي على حطب الشعب والأرض السوريتين.
في سوريا توجد إمبرياليتان إستعماريتان همجيّتان تتنافسان على خريطة الثروات في العالم وتتسابقان في امتلاك وتطوير أسلحة التدمير الشامل للبشر والأرض وتهيمنان على القرار السياسي الدولي باستعمال حق النقض “الفضيحة” لتعطيل كل قرار أممي يجتهد في تفعيل آليات سياسة أممية توصّلت إليها البشرية بعد حربين كونيتين مدمرتين للحفاظ على السلم الدولي في حده الأدنى بما لا يهدد البشرية بالزوال لو تركت لجنون وجشع قادة الدول الكبرى.
أمريكا وروسيا تعودان بالعالم من بوابة سوريا وعلى جثث شعبها إلى شفير مربع الحرب الكونية الشاملة. ورغم الصبغة التكتيكية المعقدة والمحسوبة بدقة، إلى حد الآن، للمواجهة التي تجري بينهما على أرض سوريا، فإنهما لا يترددان في تجريب آخر ما توصلت إليه صناعتهما العسكرية التي تمثّل الركن الأساس في اقتصادهما التوسعي الذي يعتبر كل ثروات العالم وطاقاته “مادة أولية” ضرورية لاستمرار نموّه، وكل جغرافيا العالم سوقا يجب أن تظلّ مفتوحة على مصراعيها أمام سلعه ومنتجيه الباحثين عن ربح يجب أن لا يكفّ عن التصاعد إلى ما لا نهاية وعلى حساب كل البشر وكل الأرض.
تدريجيا، وبتنسيق عملي ميداني، عبر ما سمّي باتفاقات مناطق خفض التصعيد، وغير بعيد عن أنظار العالم التي يجري طمسها بطوفان فوضى المعلومات، تتقاسم أمريكا وروسيا خريطة النفوذ في سوريا والعالم.
أمريكا بعد أن كانت فاعلا وحيدا في المنطقة والعالم بدت وكأنها تتراجع خلال ولاية أوباما الثانية الذي أعطى إشارات التوجه نحو تقليص الحضور الأمريكي في الخارج، وخلال حملة انتخابات الرئاسة الأخيرة (التي ستشهد ظهورا دراميا لترامب بتأثير روسي غامض في توجهات الناخب الأمريكي، تأثير ما زالت تداعياته السياسية على أمريكا وعلى شكل العلاقات الدولية وعلى العرب لم تنته) للتركيز على شأن أمريكا الداخلي المتحرّك. وبعد أن تظاهرت بمساندة الثورة السورية للتحكّم في مسارها مباشرة وعبر وكلائها في المنطقة، وبعد أن تبنت ظاهرا مطلب رحيل الأسد وهدّدت أكثر من مرة بالتدخل العسكري لإزاحته، دفعت نحو خيار تسليح الثورة كما أراد النظام تماما حين أخرج من سجونه “الإرهابيين” واخترقهم بسلاح وعناصر ميليشياته، ليجعل منهم ومن همجيتهم المسوّقة إعلاميّا/مخابراتيّا ببراعة في فيديوهات مخرجة على الطريقة الهوليودية مبرّرا كافيا لإجرامه الذي سيفوق كل حدود العقل في حق شعبه (تنكيلا وحصارا وتجويعا وتقتيلا وتهجيرا بالملايين وقصفا وتدميرا لمدن بأكملها)، ومبرّرا لتدخّل دولي بدأ أمريكيا بدعوى محاربة “الإرهاب” الداعشي الذي سبق أن جُرّبت فاعليّته في خدمة الاستعمار في العراق وأفغانستان، والذي يعرف السوريون على الميدان أنه العدوّ الأوّل للثوار لأنه أوّل من يستهدفهم في كل شبر من أرض يحرّرونها من قوات النظام.
التدخّل الخارجي بدأ أمريكيا متردّدا في السياق الانتخابي الذي أشرنا إليه، ثم خليجيا بتفويض أمريكي نجح في توظيف طموح خليجي سعودي ساذج للعب دور إقليمي انتهى إلى قرار سياسي مخترق ومتواطئ، ثم إيرانيا مدفوعا بخلفيات طائفية خرافية (الدفاع عن المراقد والمزارات والقبور المقدّسة) وبطموح قومي ملازم للسياسة الإيرانية في المنطقة منذ قرون رغم رفعه لشعارات مقاومة وتحرير انتهت تنفيذا خاضعا متواطئا لمؤامرة دولية على شعب سوريا وثورته، ثمّ تركيّا حائرا بين رهان كلّي على قدرة الحسم الأمريكي السريع للحرب قبل أن يتبين لتركيا لا فقط عدم جدية أمريكا في العمل على إسقاط النظام الأسدي، بمنع السلاح المتطور والفعال عن الثوار الحقيقيين وتسليحها الكثيف للأكراد دعما لطموحهم الانفصالي الدائم عن سوريا والعراق وتركيا وإيران، بل وتسليحها للـ”إرهابيين” حفاظا على مبرّر وجودها في المنطقة، قبل أن تتوّج سياستها الاستعمارية هذه بـ”السماح” لروسيا في سبتمبر 2015 بتدخّل عسكري همجيّ يستنسخ حرب الشيشان التي انتهت بإبادة شبه كاملة لشعب الشيشان. وحين نقول أنها “سمحت” لها بالتدخّل فلا يفترض الأمر بالضرورة اتفاقا مسبقا صريحا بينهما، إذ يكفي أنها وفّرت مناخ فوضى شاملة سمح لروسيا بإيجاد موطئ قدم لم يكن ليضرّ بمصالح أمريكا الاستراتيجية إن لم يكن يحمل عنها وعن اسرائيل عبء وتكلفة تدمير مقدّرات شعوب المنطقة التي كانت على وشك قطع خطوة مهمة على طريق التحرّر من الاستبداد الذي عطّل كل طاقاتها ومنعها من الحياة وأخرجها من التاريخ.
استفاقة تركيا المتأخرة كادت تكلّفها أثمانا عالية (لو نجح الانقلاب المدعوم أمريكيا وخليجيا) دفعتها إلى بكثير من المجازفة بتعديل استراتيجي لموقفها في سوريا والتجرّؤ على مواجهة محسوبة للوجود الأمريكي الذي يوفر غطاء علنيا لكيان سياسي كردي بدأ يتشكل فعلا على حدودها، ممّا استدعى تنسيقا سياسيا وميدانيا أكبر مع روسيا وإيران (لقاءات آستانة واتفاقات خفض التصعيد ونقاشات الحلّ السياسي الموازي لمفاوضات جينيف) دون الغفلة عن حقيقة أهداف شركائها الجدد من تدخّلهم في سوريا.
هذه الاحتلالات الجديدة تنضاف كلّها إلى احتلال مباشر سابق يبدو أنه اكتسب خبرة كبيرة في خوض الحرب بأقلّ ما يمكن من الضجيج. إسرائيل هي الفاعل الوحيد في سوريا الذي يخوض الحرب السورية في كل تفاصيلها لكن في شبه صمت. فهي تحافظ على الجولان، وتنسّق مع القوتين العظميين في كل خطواتهما وخصوصا في الجوّ. وهي تراقب بعين ساخرة نزيف إيران وتوابعها في المحرقة السورية، وتتدخّل أحيانا لقصف وتصفية أهداف محدّدة كلّما اقتضت مصلحتها أن تفعل. وهي تفعل في طمأنينة كاملة قبل أن تُسقط الدفاعات الجوية الإيرانية (بسلاح وضوء أخضر روسيّين) في سوريا طائرتها الـ أف 16 يوم 10 فيفري من العام الحالي في حادث “نوعي” ولكنه لا يحمل كل مؤشرات قرب اندلاع حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل في سوريا ولبنان في حضور ورفض اللاعبين الكبيرين المتعايشين بانسجام إلى حد الآن.
الحصيلة الحالية أن القتل والتدمير والإبادة تمارس في سوريا بمبررات متباينة ومتنوّعة بين سياسية/اقتصادية/استعمارية، وخرافية/استيهامية/مَرضيّة: من الحفاظ على شرعية سياسية أسدية رسمية وراثية دائمة مستغنية عن رأي الشعب، إلى “حقّ” القوى العظمى في محاربة الإرهاب من دون الحاجة إلى تفويض من “شرعية أممية” مترنّحة ومرتهنة لحقّ النقض، إلى “حقّ” دول الجوار في حماية مصالحها القومية الممتدّة إلى كلّ الجوار الإقليمي وأهمّه الجوار السوري، إلى “واجب الجهاد” المقدّس لإقامة “يوتوبيا” دولة/خلافة سرعان ما تحوّلت إلى “ديستوبيا” جريمة وأداة وهميّةّ طيّعة للقتل والتدمير في يد مراكز الاستعمار العالمي ومخابره الراصدة لخرائط الفكر و”الوهم” والسياسة في العالم، إلى مقاومة “العدوّ” الصهيوني بفيالق مذهبية قادمة من كلّ بقاع العالم ستتوجّه لتحرير القدس بعد حسم المعركة في سوريا أوّلا.
ما يجري الآن في سوريا جريمة عالمية تنفّذ بسلاح الآلة الصناعية الرأسمالية المعولمة، وبأموال دول إقليمية عربية فقدت قياداتُها السياسية الحدّ الأدنى من السيادة على ثروات شعوبها وعلى قرارها، وبأجساد شباب عربي وإيراني مندفع ومُستلب فقد توازنه العقلي والنفسي، وبتخطيط مراكز تفكير ومخابرات عالمية تستثمر في الغباء ولا تتورّع عن كل أصناف الجريمة.
والمحصّلة هي ثقب أسود مرعب في ضمير البشرية وتاريخها لا يعرف أحد منافذ ممكنة قريبة للخروج منه، وعار كبير على جبين الإنسانية لا أحد يملك وصفة لمحوه.
السوريّون أمام التوازن العدمي أو صفر الأفكار ؟
هل يعني التوصيف السابق أن لا أحد على حقّ في سوريا؟ طبعا لا. في سوريا شعب يواجه بصمود ملحمي الاحتلالات المدجّجة بكلّ وسائل الإبادة، ويواجه الجماعات “الجهادية” المأجورة والأحزاب التابعة المرتهنة والتابعة للخارج. وفي سوريا مقاومون عقلانيون ديمقراطيون مدنيّون حداثيون لا يصل صوتهم للعالم بعد أن تمّ إغراق هتافاتهم من أجل الحرية بدويّ السلاح، ودفن أفكارهم المتجاوزة لانقسامات المذهب والطائفة والحزب والقبيلة والإيديولوجيا تحت ركام المدن المهدّمة والمسوّاة بالأرض.
في سوريا الآن ما يشبه التوازن العدمي الذي يعد بلا شيء وبكلّ شيء. لم يبق في سوريا الآن ظلّ لفكرة واحدة يمكن أن تشكّل نواة لمشروع وطني جامع لمن تواجهوا على امتداد سبع سنوات وقبلها عقودا بكلّ أنواع العداء والحرب. كل الأفكار أصبح لها لون الدم والجريمة والثأر. وحده جيل جديد من خارج الاصطفافات القديمة يمكن أن يصنع لغة يتحدّث بها من بقي من السوريين إلى المستقبل. ولكنّ ذلك لا يمكن أن يحدث قبل أن تستقرّ التوازنات الدولية الجديدة على توزيع جديد للهيمنة والنفوذ بين القطب الأمريكي التقليدي المضطرب والقطب الروسي العائد بصيغته القومية، والقطب الصيني الذي يتقدّم بسرعة ثابتة في مسار صعود اقتصادي سريع يعلم أن ريعه السياسي الدولي سيأتي لامحالة في حينه، وربما قطب أوروبي “عجوز” باحث عن مدخل مناسب للعودة إلى الساحة الدولية (دعوة ماكرون إلى عقد مؤتمر دولي حول سوريا مرت دون أثر).
هذا التوازن الدولي المحتمل لن يخرج عن شروط التنافس المفتوح حول المصلحة التي تستبيح في طريقها الدوس على كل القيم والمواثيق الحقوقية التي دفعت البشرية أثمانا باهظة من أجل أن تجعل منها مشتركات إنسانية تعصمها من حرب أصبحت أدواتها الحديثة قادرة على القضاء على كل مظاهر الحياة على كوكب الأرض.
أما عن حظوظ تبلور فكرة عربية جديدة جامعة تشدّ شعوب المنطقة إلى المستقبل، فيبدو أن انكشاف المشهد السياسي العربي يجعل من هكذا أمل مجرّد تهويم لا سند له من الواقع. فما يجري من تراجع سريع عن قليل مكتسبات التنوير والعقلنة والتحديث في كل من العراق ولبنان التي سقطت تحت حكم التطييف المذهبي، وفي مصر التي ارتكست إلى ما قبل ليبرالية الثلاثينات، وفي السعودية التي تقود مبادرة جنونية لتمويل صفقة تنهي حقوق الفلسطينيّين في أرضهم بسبب خوفها من تداعيات قانون”جاستا” الذي يهدّدها بدفع ثمن أحداث سبتمبر إن لم تستجب لكل شروط أمريكا ترامب الصهيونية، ما يجري على أرض العرب يُدخلهم في طور تاريخي جديد تماما يواجهون فيه ما أسميته منذ قليل بتوازن العدم. ويضع السوريّين وحيدين أمام مصيرهم.
ما الحلّ بعد كلّ هذا الموت ؟
هل يجرؤ عاقل أمام هول ما يجري في سوريا على طرح مثل هذا السؤال؟
نعم، لا مناص من طرح السؤال، وإن كانت أغلب شروط الإجابة تُمسك بها أيادي لا سلطة للشعب السوري عليها. فقد انتهى السوريون جميعا إلى التسليم بأن ميزان القوى على أرض الواقع اختلّ نهائيا بين من بقي حيّا ممّن لم يهجّر من السكان أو عجز عن الهجرة ومن ثوار حقيقيين محاصرين ومجرّدين من وسائل القوة والحياة إلا في حدود ما تسمح به المراهنة الحذرة على تناقضات المحتلّين غير الدائمة من جهة، والفصائل المسلّحة المتوحّشة المرتهنة في قرارها لمموّليها المحليّين والدوليّين، وميليشيات النظام والتطهير الطائفي وجيوش الاحتلالات الأجنبية المدجّجة بكل وسائل الدمار من جهة ثانية. اختلال كلّي يدفع البعض إلى المراهنة على حلّ قد ينجح ما بقي من المنتظم الأممي في بلورته إن أصبح التناقض بين القوى العظمى في سوريا والمنطقة أعلى كلفة من انسحاب ممكن لصالح صيغة سياسية ما.
تعقّد الحلّ يعكسه تخبّط المتدخّلين الدوليين في الشأن السوري. فمنذ سنة سرّعت روسيا في مفاوضات الحلّ النهائي وأسست مسارا تفاوضيا في آستانة مع التلويح بالانسحاب التدريجي من سوريا، قبل أن تلغ أكثر في الدم السوري بقصف غير مسبوق للغوطة وبموجة جديدة من استهداف مناطق المعارضة تمهيدا لدخول ميليشيات النظام وإيران إليها. وها أن ترامب يصرّح أخيرا بقرب مغادرة القوات الأمريكية لسوريا بعد أن انتهت مهمتها بهزيمة داعش، قبل أن تنفي خارجيته علمها بقرار الخروج.
أما السعودية فقد أوقفت دعمها للفصائل التابعة لها وتركتها تواجه مصيرها بعد أن جاءها الأمر من الولايات المتحدة بأن تفعل. تركيا من جهتها مورّطة بحكم الجغرافيا في الشأن السوري. وهي تناور على جبهات عديدة ميدانيا وسياسيا (في مفاوضات جينيف وآستانة) لضمان أمن حدودها في ظلّ تناقض مباشر مع دعم أمريكي فعلي للأكراد ولكنه دعم يلين أحيانا أمام الإصرار التركي -المدعوم روسيا إلى حد معيّن- على تقليصه ونقله إلى حدود شرق الفرات. أما الموقف الإيراني الذي استظلّ بالتدخّل الروسي (يعلم جيدا أنه عجز عن إنقاذ نظام الأسد لولا تدخّل روسيا الكاسح) فإنه يعلم أن تغيير الخارطة الديمغرافية لا يملك مقوّمات الصمود استراتيجيا إلا إن أراد استنساخ تجربة استيطان استعماري يدّعي أنه جاء ليقاومها، وهو خيار لا يجد مسوّغات دائمة في عقل أغلبية الشعب الإيراني الذي يطالب قادته الحاليين بالعودة إلى الديار ومواجهة أزمات إيران الداخلية العديدة أولا.
خاتمة:
لم أقدّم أرقاما وإحصائيات حول ضحايا الحرب الكونية الدائرة في سوريا، حول عدد القتلى والمهجّرين واليتامى والجرحى الذين بترت أطرافهم والذين فقدوا عقولهم…الخ. ببساطة لأن لا أحد يملك الجرأة على الإحصاء، والأهمّ أن العدد، أيّ عدد، فقد دلالته في المحرقة السورية.
ولكنّ واجبا أخلاقيّا ما يملي على الأحياء تسجيل اعتراضهم ولو اليائس على دخول البشرية مرحلة الشرّ المحض. في انتظار أمر ما.