العدالة الإنتقالية: نهاية هيئة أم نهاية مسار (1) ؟
عادل بن عبد الله
وَشَاهٌ خَلْفَهُ الشّاهاتُ
تُعْطِيهِ عَساَكِرَها
لِكي يَلْعَبْ
وَكيْ يَغْلِبْ
وَكيْ يَبْقَى لهُ المَلْعَبْ
أَكانَ الشّاَهُ والشّاهاتُ فيناَ
في أصابِعِناَ. ولمْ نَعْرِفْ؟
أَحقّاً لم نكنْ نعرِفْ؟
معين بسيسو، القصيدة
منذ أن صادق المجلس الوطني التأسيسي في ديسمبر 2013 على القانون الأساسي عدد 53/2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها -محددا بهذا القانون مهمة هيئة الحقيقة والكرامة زمنيا بأربع سنوات -قابلة للتمديد بسنة-، عرف هذا الملف تجاذبات كثيرة لا تختلف عن التجاذبات الأخرى التي أثارتها المبادرات التشريعية الرئاسية على وجه الخصوص.
لفهم المأزق الذي وصل إليه ملف العدالة الانتقالية في هذه الأيام، يمكننا أن ننطلق من موقعين مختلفين: إما أن ننطلق من البدايات ونتتبع المسار الخاص بالعدالة الانتقالية الذي أدى إلى ذلك المأزق، وإما أن ننطلق من النهايات ونعتبر أنّ مأزق العدالة الانتقالية هو مظهر من مظاهر الأزمة في مسار الانتقال الديمقراطي كله ومظهر من مظاهر العطالة في المنطق السياسي الذي حكمه منذ الأيام الأولى للثورة. وقد اخترنا في هذا الجزء الأول من المقال أن نعتمد المنهج الثاني.
لا شك في أن النصوص القانونية تحتمل أكثر من تأويل واجتهاد. ولا شك أيضا في أن القانون المنظم لعمل هيئة الحقيقة والكرامة لا يخرج على هذه القاعدة. ولكن عندما تعكس المفردات التي يستعملها “فقهاء القانون” المختلفون نوعا من “التخوين” و”التتفيه” و”التحريض” فإن المسألة تتجاوز الاجتهادات القانونية -بين متناظرين يعترف كل واحد منهم بنسبية الحقيقة وبأنها بناء جماعي يعقب الحوار ولا يتقدمه- إلى خطاب هو أقرب إلى خطابات العنف المؤسسة لحرب الكل على الكل.
للتدليل على الوضع الكارثي الذي وصل إليه السجال العمومي في تونس، يمكننا أن نذكر خطابين “معياريين” يعكسان العقل “القانوني” التونسي المهيمن على هذه اللحظة التاريخية. وهما خطابان يصدران من موقعين “حداثيين” يشتركان في البدايات -معارضة الترويكا وانتقاد حركة النهضة- وفي التخصص -تدريس القانون في الجامعات التونسية-، ولكنهما يختلفان في المآلات -الانتماء إلى نداء تونس أو البقاء على مسافة نقدية منه دون التخلي عن عداوة الإسلام السياسي-. يُمثل أستاذ القانون جوهر بن مبارك الموقعَ الأول: موقع الدفاع عن هيئة الحقيقة والكرامة وعن شخص رئيستها الأستاذة سهام بن سدرين. وهو ما جعله يكتب ما يلي: “كل من يعرف قليلا من القانون يدرك أن ما حصل هو انقلاب لفرض أمر واقع. وكل مختص في القانون يقول عكس هذا وينسف أبجديات القانون العام هو قوّاد آثم مهما علا شأنه. وأتحدّى في الأمر علنا وجَهْرًا كلّ مدّعي خلاف”. أما الموقع الثاني: موقع الانحياز لخيار إنهاء مهام هيئة الحقيقة والكرامة والطعن في مصداقية رئيستها -بل الطعن حتى في فلسفة إنشائها ذاتها- فتمثله أستاذة في القانون وعضوة في كتلة نداء تونس هي الأستاذة فاطمة المسدي التي أعلنت في مداخلتها أمام مجلس النواب: “من يمدد للهيئة فقد قام بالخيانة العظمى ويجب أن يحاكم بالتآمر على أمن الدولة”.
لو أردنا تحليل هذين الخطابين المتقبلين تقابل تضاد، فإننا سنقف على اختلافات كثيرة ولكنها اختلافات لا يمكن أن تحجب منبعهما الواحد رغم كل شيء: منبع أحادية الصوت ورفض الخلاف. فرغم أنّ كلام الأستاذ بن مبارك ينتمي إلى مجال “التحدي العلمي” -على عكس كلام الأستاذة المسدي المنتمي إلى مجال “التحريض الأمني”-، ورغم أنّ الأستاذ بن مبارك يتوجه إلى “المجموعة العلمية” -من خلال رفعه التحدي في وجوه من يخالفونه الرأي- بينما تتوجه الأستاذة المسدي إلى “مؤسسات الدولة” -تحديدا المؤسستين الأمنية والقضائية- للتحريض على زملائها في “المؤسسة التشريعية”، رغم كل ذلك فإن الخطابين يشتركان في منطق النفي المتبادل: من يعتبرهم الأستاذ جوهر بن مبارك “قوّادين” -بالمعنيين الفصيح والدارج في تونس- هم أنفسهم يعتبرونه “مجرما” ومتآمرا على “أمن الدولة”.
ولعل السؤال الذي يطرح هنا: كيف يمكننا أن ننتظر حوارا بين”قوّاد” و”مجرم”، أي بصيغة أخرى: كيف يمكن بناء “عقل حواري” بين طرفين يعتبر كل واحد منهما الآخر عدوّا -وأقل قيمة معرفية أو أقل وطنية منه- ولا ينظر إليه باعتباره “شريكا” و”نظيرا” في حقوق الانسان الأساسية؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال تخرجنا من ملف العدالة الانتقالية إلى ملف الانتقال الديمقراطي برمته. فالخطابات الصدامية ومفردات الحرب وكل أشكال النفي والإلغاء، وهذا الوضع القائم على الاستقطابات الحدية، كل ذلك لم يولد صدفة، بل هو نتيجة ترسبات/مسارات معينة تتحمّل فيها النخب كلها جزءا من المسؤولية مهما كانت مواقعها “الآن-وهنا”.
وهي جملة من الترسبات/والمسارات التي انطلقت مباشرة خلال الأيام الأولى للثورة، وتحديدا عندما اعتُمد مفهوم “استمرارية الدولة” لإدارة استحقاقات الثورة، وعندما نجحت النواة الصلبة للمنظومة في حرف الصراع عن مداراته الاقتصادية الاجتماعية إلى مدارات هووية بائسة، وينضاف إلى ذلك كله قبول “الضرائر الإيديولوجية” -في النهضة واليسار-، بأن يدير تلك المرحلة -في هيئة “تحقيق أهداف الثورة” برئاسة ابن عاشور أو في الحكومة برئاسة الباجي قائد السبسي- أشخاص ينتمون إلى النواة الصلبة لمنظومة المخلوع. وهو ما سنعود إليه بالتفصيل في الجزء الثاني من المقال بإذن الله وذلك قصد بيان الطابع “المنطقي” لمأزق العدالة الانتقالية بصرف النظر عن عنتريات البعض، وتواطؤ البعض، والصمت المشبوه للبقية. وسيكون مدخلنا إلى الجزء الثاني من المقال هو السؤال المركزي التالي: هل يمكن لمسار العدالة الانتقالية أن ينجح في ظل تداعي مسار الانتقال الديمقراطي برمته، وفي ظل غياب القاعدة الاجتماعية والمؤسساتية الصلبة له منذ 14 جانفي 2011 إلى الآن ؟
“عربي21”