عادل معيزي
• من المفروض ان تنتهي عُهدة هيئة الحقيقة والكرامة بمصالحة وطنية بين التونسيين جميعا ضحايا وجلادين مواطنين ومؤسسات الدولة.
ولكن هذا لم يتم إلى حد الآن بسبب تعنّت المذنبين في الاعتراف بما اقترفوه واعتذارهم للضحايا الذين يقبلون في الغالب ذلك الاعتذار بل وينتظرونه ويعتبرون أنّ الاعتراف بما تعرّضوا له من ظلم وقهر وانتهاكات في السابق كافيا ومنصفا لهم.
• ومن المفروض من جهة أخرى أن تنتهي آخر جلسة استماع عمومية باعتراف الجلاد بما نسب إليه وبمشاهد مؤثرة تختلط فيها مشاعر الندم مع ما يصاحبها من التخلص بالشعور بالذنب وكذلك التخلص من الشعور بالقهر بالنسبة للضحية وتتعانق فيها الابتسامات وكلمات التسامح والتصالح والتعهد بعدم التكرار.
• ومن المفروض أن تتحمل الدولة مسؤوليتها وتتعهد بجبر الضرر للضحايا ابتداء بالإعتذار الرسمي على لسان رئيس الجمهورية إلى كل التونسيين على ما لاقوه زمن الإستبداد والتعهد بعدم تكرار ما حدث أبدا والتعهد بعدم إهدار كرامة التونسيات والتونسيين مستقبلا وانتهاء بالتعويضات المادية والرمزية.
وفي بعض الأحيان تحال ملفات معينة إلى القضاء المختص ليصدر حكمه فيها نظرا لرمزيتها أو لفضاعتها أو لكونها أحدثت أثرا بالغا في المجتمع.
• من المفروض أن يلعب مسار العدالة الانتقالية دورا تاريخيا هاما بوضع الأحداث في سياقها الزمني والسياسي والاجتماعي وحتّى الدولي وتُفتح الملفات الحارقة التي ظلت طيّ الكتمان (اتفاقيات الاستقلال نموذجا) ويتمّ تحميل المسؤوليات لأجهزة الدولة أو للأنظمة السياسية التي حكمت البلاد أو للأحزاب أو للمجموعات المنظمة أو للأفراد الذين تصرّفوا باسم الدولة أو تحت حمايتها حتى تتخلص الذاكرة الوطنية من الرؤية الأحادية ويتحرر الشعب من كوابيس الماضي وينطلق في بناء مستقبله بعيدا عن أحقاد وآلام وعذابات الماضي.
من المفروض أن ينتهي المسار بأن تُغلق جميع الملفات إلى الأبد إلاّ ما استقر عليه الرأي بإحالته إلى الدوائر القضائية المتخصّصة نظرا لحجم الفظاعات التي تمّ ارتكابها ضد الإنسانية..
لقد نجحت هيئة الحقيقة والكرامة في تلقي الشكاوى وفي الاستماع للضحايا وفي عقد الجلسات العلنية كشفا لحقيقة الانتهاكات التي حدثت في الماضي وبحثا عن المختفين قسريّا إلى اليوم وفي إعداد برنامج شامل لجبر الضرر للضحايا وفي التقصي والتحقيق في الاعتداءات الجسيمة على حقوق الانسان وفي الإحالة على الدوائر القضائية المتخصّصة وبالأخص في حفظ الذاكرة الوطنية لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان باعتماد نظام أرشيفي في عمل الهيئة يضمن سلامة الوثائق والمعلومات والمعطيات ومقروئيتها وحفظها لأمد طويل وإتاحتها واستغلالها وكذلك بإعداد التوصيات اللازمة لتخليد ذكرى الضحايا واستخلاص العبر وإصلاح المؤسسات..
نجحت الهيئة في أن تكون قدر ما استطاعت محايدة ومتجرّدة من كل النوازع وأدارت أعمالها بمنهجيّة واقتدار لا يتوفّر في الحكومات المتعاقبة منذ انتخاب الهيئة إلى اليوم رغم تسييس مسار العدالة الانتقالية منذ البداية ورغم تضخيم الخلافات الداخلية ورغم الصخب اليومي الذي يدور حول أعمال الهيئة والتجاذب السياسي الحاد ورغم الاستهداف الإعلامي وتظليل الرأي العام الممنهج والتحريض المستمر والتشويه المتتالي لرئيستها وأعضائها..
في حين أنّ أعمالها كان من المفروض أن تتمّ في أجواء هادئة تضفي عليها نوعا من السكينة والقداسة باعتبار أنّها تتناول عذابات الضحايا ومعاناتهم وتبحث في أكثر الأعمال البشرية إهدارا للكرامة الانسانية..
• في مقابل نجاح الهيئة فشل رئيس الجمهورية في أن يكون رئيسا لكل التونسيين وفشل في أن يكون متعاليا عن الانتقام حين سحب جوازات سفر أعضائها وفشل حين تجاهلها ولم يستقبل أعضاءها ولو لبعض الدقائق وفشل في أن يكون ديمقراطيا حين غلّب رأيه وقدّم مبادرة تشريعية للمصالحة مع الفاسدين دون مقابل وفشل في احترام القسم الذي أدّاه حين لم يضمن احترام دستور الجمهورية وتشريعها رغم طلبنا له بالتدخل ومخاطبة مجلس نواب الشعب الذي قامت أغلبية غامضة داخله بدورها في عدم الالتزام بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية.
• وفي مقابل نجاح الهيئة فشل رئيس مجلس نواب الشعب في احترام الدستور وفشل في احترام التشريع المتعلق بالعدالة الانتقالية وفشل حتّى في تطبيق النظام الداخلي للمجلس فتدخلت اللجان في عمل الهيئة وحاولت تنصيب نفسها رقيبا على أعمالها وامتنع مكتب المجلس عن إقرار سد الشغور لمدّة ثلاث سنوات ورفض الاعتراف بقرار سيادي للهيئة يتعلق بالتمديد.
• وفي مقابل تحلي أعضاء الهيئة المنتخبين ورئيستها بالرفعة والمسؤولية أثناء نقاش قرار ليس من حقهم مناقشته قام بعض النواب بكيل التهم وهتك أعراض الأعضاء والتنكيل بهم في المجلس وأمام وسائل الاعلام بطرق وضيعة ودنيئة كشفت عن مستواهم الهابط وحجم الحقد والأنانية والبغضاء.
• وفي مقابل نجاح الهيئة في تطبيق القانون الذي سنّه المشرّع فشلت الحكومات المتعاقبة في تنفيذ التزاماتها مع الهيئة وعملت بعض الوزارات والمؤسسات ما في وسعها من أجل تعطيل أعمالها وخاضت ضدّها معارك بالوكالة حتّى لا تصل إلى كشف الحقيقة وجبر ضرر الضحايا وحفظ الذاكرة وإبرام اتفاقيات تحكيم ومصالحة وفوّتت على خزينة الدولة وعلى الشعب التونسي مئات المليارات.
لنترك ما حدث جانبا ولنبلّغ رسالتنا إلى الشعب التونسي: سيستكمل المسار مهامّه بجبر ضرر الضحايا وحفظ الذاكرة وتحقيق المصالحة الوطنية وستطوى صفحة الماضي إلى الأبد من أجل مستقبل مشرق لكل التونسيات والتونسيين..
عضو هيئة الحقيقة والكرامة