هل تخلت حركة النهضة عن هيئة الحقيقة والكرامة ؟!
أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
هل بدأت تبرز حقيقة بوادر الإنفصال -من جانب حركة النهضة- عن المسار السابق للعدالة الانتقالية ؟
وبصراحة مباشرة، هل شرعت حركة النهضة -بعد تلك الجلسة الصاخبة ليوم 26 مارس- في التخلي عن دعمها لهيئة الحقيقة والكرامة بتركيبتها الحالية وعلى رأسها السيدة سهام بن سدرين ؟
وبأكثر دقة، هل فعلا تجنبت حركة النهضة الإنخراط في “الإنقلاب” على الهيئة ورئيستها إلى حين الإنتهاء من جلسة عدم التمديد المشهودة ؟
ألم يتساءل الكثير -حتى من المتعاطفين أو القريبين من حركة النهضة- عن دواعي امتناعها من المشاركة في التصويت ؟ ألم تفسح المجال -بموقفها ذاك- لنداء تونس (44 نائبا) وبقية الكتل النيابية المعادية (أساسا حركة مشروع تونس) للانفراد بالهيئة ورئيستها والإجهاز عليهما؟
ألم يكن واضحا أن حركة النهضة -التي ظهرت منذ بداية الأزمة كمدافع شرس على استمرار الهيئة- كانت تضمر التخلي فعليا عن مرحلة الدعم السابقة كنتيجة طبيعية لمصادقتها منذ أشهر على قانون المصالحة (13 سبتمبر 2017) ؟
ألا تشير القرائن المتضافرة إلى أن الحركة قد تركت رئيسة الهيئة ومن معها لمصيرهما المحتوم ؟
وجوابا على هذه التساؤلات يمكن القول أن الحقيقة بهذا الشأن تبدو سابقة لأوانها فضلا عن أن ذلك قد يناقض بعض المواقف المعلنة لنواب حركة النهضة وتصريحات قيادتها وأن القول بعكس ذلك هو في الأخير محاكمة (غير منصفة) للنوايا !.
لكن يظهر أن مرور يومين فقط (بل أقل من ذلك) على تلك الجلسة المشهودة كانا كافيين لإدخال الحيرة والإرتياب على ذلك الوثوق المفترض في المواقف والتصريحات، من ذلك:
1. ما ورد في هذا السياق على لسان السيد نوفل الجمالي رئيس لجنة الحقوق والحريات بمجلس نواب الشعب وعضو المكتب السياسي لحركة النهضة في حوار منشور بجريدة الصباح بتاريخ يوم الاربعاء 28 مارس الجاري وخصوصا قوله أن موقف حركة النهضة من هيئة الحقيقة والكرامة “ينبني على قراءة واضحة للقانون وهو إصطفاف مع مسار العدالة الانتقالية وليس مع شخص رئيسة الهيئة ويجب هنا أن نفصل بين رئيسة الهيئة وبين المسار ويخطئ من يختزل كل مسار العدالة الانتقالية في شخص سهام بن سدرين” مع التأكيد نواب حركة النهضة “في تواصل مع الزملاء في نداء تونس ولن يتضرر التوافق بمجرد اختلاف في وجهات النظر حتى ولو كان الموضوع مهما وحساسا ودقيقا كالعدالة الانتقالية فلا أعتقد أن هذا الموضوع سيكون سببا لتصدع سياسة التوافق بين حركتي النهضة والنداء”.
2. ما أكده بيان المكتب التنفيذي لحركة النهضة الصادر يوم الاربعاء 28 مارس الجاري بشأن تداعيات الجلسة الأخيرة لمجلس نواب الشعب وخصوصا “اعتبار العدالة الانتقالية إستحقاقًا وطنيًّا متعدّد المسارات يجب توفير شروط استكماله وإنجاحه بقطع النظر عن من يدير هذا الملف” مع تسجيل “حاجة البلاد لكل أبنائها وبناتها وإلى المحافظة على روح الحوار والتوافق من أجل معالجة جميع القضايا محل الاختلاف…الخ”.
ولعل ما يلفت الإنتباه هو اكتفاء البيان باستنكار المكتب التنفيذي “للأجواء التي دارت فيها الجلسة العامة حول العدالة الإنتقالية والتي اتسمت بإخلالات إجرائية ونقص في الترتيب والتحضير..” دون التعبير عن رفض حركة النهضة لنتائج تلك الجلسة أو عزمها اتخاذ إجراءات عملية لإبطال مفعولها.
3. ما صرح به عضو هيئة الحقيقة والكرامة السيد علي غراب في الندوة الصحفية التي دعت لها الهيئة بتاريخ 28 مارس الجاري وذلك بقوله “انّ الصعوبات التي تمر بها الهيئة لا تتعلق فقط بما يحدث خارجها بل تتعلّق بما يحصل داخلها” مضيفا “أن رئيسة الهيئة سهام بن سدرين لا تفسح المجال للأعضاء لإتخاذ القرار معها بصفة تشاركية”. (موزاييك اف.ام -28 مارس 2018).
وقد سبق لهذا العضو (المنشق!) مع ثلاثة آخرين من مجلس الهيئة (علا بن نجمة وصلاح الدين راشد وابتهال عبد اللطيف) الهجوم على رئيسة الهيئة والتهديد بمقاضاتها في بيان صادر عنهم في 9 سبتمبر2017 (وكالة تونس أفريقيا للأنباء في نفس التاريخ).
ومن الملاحظ أن الأعضاء الأربعة المذكورين يعدون -حسب بعض المصادر- من ضمن الشق القريب من حركة النهضة.
ويبدو من هذه المواقف أن التركيز على مسؤولية السيدة سهام بن سدرين والتأكيد -خصوصا في هذه المرحلة- على الفصل بين مسار العدالة الانتقالية ورئيسة الهيئة وحتى الهيئة نفسها (وهو معنى يتداوله خصومها) فضلا عن تكرار أن “المسار لا يختزل في شخص سهام بن سدرين” يشير -بصفة واضحة- إلى أن حركة النهضة ربما تتخلى عن تمسكها برفض نتائج الجلسة العامة المنعقدة في 26 مارس الجاري وبحث خيارات أخرى في نطاق التوافق مع حركة نداء تونس ودعم الإستقرار السياسي فيما يعتبر مواصلة لمسار المصالحة مع رموز النظام السابق.
ولعل ما ورد في بيان حركة النهضة الأخير يعد أكثر إفصاحا عن توجهها الذي يتضمن في المرحلة القادمة :
• المحافظة على مسار العدالة الانتقالية لكن في اتجاهات متعددة وهو ما أشير إليه بالقول أن “العدالة الانتقالية هي استحقاق وطني متعدّد المسارات”.
• استكمال مسار العدالة الإنتقالية وضمان نجاحه وهو ما يدفع في اتجاه التواؤم مع طبيعة المرحلة والمرور إلى ما يروج من مفهوم خاص للوحدة الوطنية والسلم الإجتماعية والإستقرار السياسي بمعزل عن الشروط الحقيقية للعدالة الإنتقالية (كشف الحقيقة – المحاسبة – جبر الضرر..).
• إنجاح المسار بقطع النظر عن من يدير ملف العدالة الانتقالية وهو ما يقتضي في هذا السياق التباعد عن هيئة الحقيقة والكرامة في تركيبتها الشرعية والتخلي (ولو في نهاية المسار) عن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة والإنضمام الى موقف الرافضين للتمديد في عملها + التمسك رغم كل ذلك بنهج التوافق مع حركة نداء تونس التي عبرت عن التزامها مع كتل نيابية أخرى بتقدبم تصور جديد لمسار العدالة الإنتقالية.
ورغما عن ذلك هل يمكن أن تكذب الحركة نفسها وأن “تصطدم” توقعاتنا بإصرار حركة النهضة على حماية المسار من الإنقلابات والإنتصار للقانون والقطع مع ممارسات الماضي!؟