هشيم الجريد…

نور الدين الغيلوفي
قصّة صادفتني لأحد ضحايا الانتهاكات فما فعلت غير تدوين ما سمعت
“هذه القصّة شهادة على معاناة المعارضين في ظلّ نظام الخليع.. يخرجون من السجن ليواصلوا رحلة عذاب أريد لها أن تكون قدرا.. مدى الحياة…”
لوّح لي بيده ومضى في سبيله… غامت صورته خلف بلّور المترو الذي حملني وتركه… انتبهت بعد حين إلى أنّني قد أخطأت محطّتي… أربكني ما سمعت فغام بصري وتعطّلت مائزتي وأخذني الذهول بعيدا…
كان اللقاء وجيزا… حدث من تلك الأحداث النادرة التي تمضي وتترك خلفها فكرا حائرا وتساؤلا قائما… قصّة صادفتها لم تكتمل ككثير من الأحلام… مضت أيام فأسابيع وصورة الفتى لا تزال تلحّ عليّ كما لو كان ملازمي لا يفارقني… قصّة لا تريد أن يكتنفها النسيان…
لقيته مصادفة… في محطة من محطات المترو… كان وحيدا يبحث عن محاور يبثّه بعض همّه الذي أثقل كاهله سنيّ عمره… لفت انتباهي بلهجته الجريدية الأصيلة وبقدرته الخارقه… قدرته على اختراق محاوره والنفاذ إليه… فتى ضحوك ولكنك تكاد تبصر بعينك خلف الضحك أشياء… وأشياء… شخصية معدنها من البلّور… عينان خضراوان احتدّ نظرهما توسّطتا وجها لفحته شمس الجنوب القاهرة ولكنّها لم تذهب بألقه رغم الجراح العالقة والوجع المتّصل…
– قدمت إلى العاصمة منذ يومين، قال، لا أعتبر ني صائما ههنا… هناك نحن نعاني حرّا لا يحتمله غيرنا… فقد بلغت حرارة الطقس اثنتين وخمسين درجة في الظلّ.. هنا في العاصمة رطوبة ورخاوة ونعومة… هنا نرى الممكن يسعى بين أيدي الناس… أما هناك فلا ممكن إلا ما كان غِلابا… بل اغتصابا…
استفزّني كلامه وقدرته على التعبير… بدا لي من كلامه ذاك من سلالة انقرضت وحسبتني من يتاماها…
شابّ في السادسة والثلاثين من عمره بعينيه بريق يشي بأمل جارف وبلسانه طلاوة من خبَرَ العبارةَ وطُرُقَ البيان…
– أنا من بلاد الجريد… هناك يبلغ بنا حرّ الشمس ما لا يقوى على احتماله غيرنا ونخلنا… لا تكاد ترى سوى الوجع بين أيدي الناس.. وفي كلّ جهة وعلى كلّ وجه… ولكنّنا طوّعنا الوجع وحملناه على الرأفة بنا واحتلنا عليه ليتحوّل من القساوة إلى الليونة… أو كذا خيّل لنا…
همس إلي:
– أنا سجين سياسي منذ89… لم أشهد في حياتي ما يسرّ حتى جاءت هذه الثورة العظمى لتفتح لي باب الأمل على مصراعيه… أراني طفل حرية يحبو ويتعلّم عشق حضوره ويمتلئ تفاؤلا ويجد من اللذة ما لا يحيط به وصف…بفضل الثورة عاد إليّ الأمل يا صاحبي… أتعرف مذاق الأمل إذ يعود بعد طويل فقدٍ؟ من أي بلاد الله أنت؟.. اعذرني… لقد فجّرتنا الثورة فسالت بنا مطايا الكلام بعد الذي أعرف وتعرف…
– سُجنت طفلا… لم أكن أفقه من الأمر الكثير… أصليّ وأحضر الدروس بمسجد الحيّ هناك في قريتنا. وفي بعض الأحيان أزور بعض أصدقائي أو يزورونني… نتحادث ونطالع بعض الكتب ونحلم معاً أحلاما صغيرة لم أرها تثقل على أحد… مجرّد أحلام… نحلم ونتعاون على قضاء أمورنا كما لو كنّا من أسرة واحدة… أيامها كنت أدرس بالسنة الرابعة من التعليم الثانويّ الأولى بمقاييس هذه الأيّام…
– معنى ذلك أنّك دخلت السجن في سنّ الرابعة عشرة…
– أي نعم… اقتادوني من بيتنا فجرا… أذكر جيّدا أنّ أمّي أفاقت، وأبي وأخوتي، على طرقات عنيفة… طرقات على الباب أفزعت أهل الحيّ، فخرج الجميع من مضاجعهم… وسرعانما عادوا إليها… عادوا لمّا علموا أنّ زوّار الليل هم طرّاق بابنا وقد علموا أن لا طاقة لهم بزوّار الليل… كانت لحظة لا تنسى… فلم رعب لم تشهده السينما… بكاء أمي وذهول والدي… وخوف إخوتي… ونظرات العجز في أعين الناس من حولنا…
– قضيت سنة ونصفا بين جدران السجون أحمل على كاهلي تهمة الانتماء إلى جمعية غير مرخص فيها… كنت من صغار جماعة الانتماء الذين جمعتني إليهم مختلف سجون البلاد… من مختلف لهجات البلاد… جماعة الانتماء، هكذا كانوا يسمّوننا في السجن وبذلك تميّزنا… سنة ونصفا سرقوها من طفولتي… سنة ونصف ذهبت بآمالي وآمال أهلي بي حتّى لقد فسد الانتظار وتربّت الخيبة في الحشا…
– خرجت بعد سنة ونصف… وكنت لم أزل بعد طفلا… ولمّا لم أتعوّد على فقد الأمل فقد اجتهدت في العمل لتسديد ثمن دراستي في معهد خاصّ… عملت في كلّ شيء… لم ألتفت إلى غير غاية لم تفارقني يوماً… الدراسة واللحاق بأترابي…
– ارتقيت من سنة إلى أخرى حتّى بلغت البكالوريا… كنت فرحا لأنني درست بجدّ… وكنت مصمما على تحقيق النجاح بل التفوّق لأجل اللحاق بالدراسة الجامعية. فلكم حدّثني أصدقائي عن الجامعة… كانت حلما…
وسمعته يتمتم:
– كان صرحا من خيال فهوى !
وجاء موعد الامتحان.. امتحان البكالوريا.. كنت في حال من النشوة لا يوصف… استعدت طفولتي الهاربة وفرحت كما لم أعرف الفرح…
وحلّ موعد الامتحان… أجريت اختبار اليوم الأول… الفلسفة. لا أزال أذكر الموضوع الذي اخترته وكتبت فيه… كان حول العمل وعلاقته بالحرية… تأكدت بإحساس طفوليّ عجيب أن النجاح سيكون حليفي لأن أستاذي، وقد لقيته خارج قاعة الامتحان، امتدح عملي لمّا أخبرته بما أنجزت…
في اليوم الثاني نهضت كما ينهض كل تلميذ متفائل… كانت أمي، وهي ترى فرحي الطفوليّ، تساعدني على تناول فطور الصباح وتعدّ عدّتي وتلهج بالدعاء لي… جميلة أمي… لولاها لأصابني الجنون… أنا ابنها بكرها وقد كنت أكثر أبنائها أذى لها… أتعبتها وضاعفت من أحزانها… شقيت بي شقاء ضاعفه الحاكم… حاكم لا يكتفي بإفساد الدنيا بل يسعى في فساد الآخرة… حاكم لم يترك لنا سبيلا لإرضاء الوالدين…ولقد ظلّت أمّي وجعا ملازما.. كم تسببت في أذاها وكم سالت مدامعها لأجلي و بسببي…
كان المترو يتلوّى في المدينة كما لو أصابه من وجع الفتى… أنتبه حينا وأسرح حينا آخر… تأخذني حكاياته بعيدا… في الإنسان والرحمة وفي الكراهية وأسبابها… هذا فتى لم يفعل شيئا يستحقّ كلّ هذا الانتقام فلماذا يصرّ الحاكم على مثل هذا التنكيل؟
تابع الفتى حديثه:
– في يوم من الأيام عدت من السوق وقد بعت شيئا من التمر… دخلت فوجدتها تبكي ولا أذكر أنّني رأيتها من قبل في مثل حالها تلك… استخبرتها فلم تخبرني… ولقد علمت بعد حين أن الشرطة دعت أخي لتسأله عنّي وعما أفعله وعن مواضيع أحاديثي في البيت وبين أهلي وحذّروه من مخالطتي أو مساعدتي… قهروها فلم تجد من ملاذ غير دموعها تذرفها…
في تلك اللحظة دمعت عيناه الخضراوان فمسح دمعاته بكمّه الأزرق… ورأيت كأنّ دموع والدته خالطت دموعه… وواصل بإصرار عجيب سرد حرقة البكالوريا كأنه ينجز ثارا:
– لمّا هممت بدخول المعهد استوقفني اثنان بزيّ مدنيّ… أمسكاني من ذراعيّ وطلبا إليّ مرافقتهما، وصحباني إلى مركز الشرطة. وهناك أعلموني وقد اجتمعوا عليّ أنني لا أملك الحقّ في إجراء الامتحان… وبعد ساعة تركوني وشأني… همت على وجهي وقد غام بصري وتملّكني حنق واستبدّ بي إحساس بالعجز ظلّ مرافقي طوال عشرين سنة… ما أقسى ألاّ تجد لك في الأرض نصيرا ويهجرك الصحب والأتراب وتراك وحيدا تشقّ صحراء عمرك وكلّما تقدّمت خطوة ضاق بك الأمل وانتشر حولك السواد… أيّام ولا أيّام العرب يا صاحبي…
أردت أن أسرّي عنه بتغيير موضوع الحديث:
– أما فكّرت في اتخاذ زوجه تحمل عنك بعض وزرك وتشاركك بعض حلمك؟
– حلمي؟ وضحك، هل تركوا لنا حلما؟ لقد طاردوها أحلامنا حتّى طارت كما تطير العصافير… فهاجرتنا ولم يبق لنا غير الكوابيس… زوجة! آش كون اللّي عترضى بي؟ يا راجل هو خوي منعوه من مجالستي!
– ماذا عساي أقول لك يا صاحبي؟ لقد لقيت من عمري نصبا…شهدت من العنت أشدّه ومن العناء ما لا طاقة للجبال به… أتدري أنّني كنت بعد خروجي من السجن مطالبا بزيارة مركز الشرطة أربع مرّات في كلّ يوم. وظللت على تلك الحال أربع عشرة سنة بتمامها وكمالها لا يحقّ لي أن أمرض وليس لي رخصة مطلقا… في كلّ يوم، حتّى أيّام العيد، أذهب إليهم وأظل أنتظر زمنا، ساعة أو ساعتين، في الممرّ من أجل أن أمضيَ بسجلاّتهم والأعوان يمرّون بي جيئة وذهابا ولا يسمحون لي بالدخول إلاّ متى أصابهم القلق منّي أو أحرجهم بعض الفضوليين من أولئك الذي يحضرون إلى المركز بسؤالهم عن سرّ بقائي الوقت كلّه واقفا في الممرّ… لم يكن لي الحقّ في الجلوس!
وفي يوم من الأيّام، من فرط ما أصابني من إحباط وإهانة وبسبب ما كنت أجده من عجز، قرّرت ألاّ أعود إليهم… وقلت لعلّهم واجدون من يشغلهم غيري… لم ينقض اليوم حتّى قدم الغزاة… بينما كنّا بصدد تناول وجبة العشاء أبي وإخوتي وأنا حتّى داهمت بيتنا سيارتهم… دعاهم والدي إلى الطعام… زجروه وأخذوني كما لو كنت شيئا… ودفعوا بي إلى سيارتهم وانطلقوا إلى المركز… وهناك لقيت من الإهانات ما شاءت لي أهواؤهم… واحتفظوا بي داخل زنزانة مظلمة لتكتب لي ليلة أخرى داخل أقبيتهم القبيحة… ولقد كانت تلك الليلة طريحة التوبة. ومنذئذ لم أتخلّف يوما عن النظر في وجوههم العكرة… كان سلوكهم تربية على الحقد والكراهية…
– وماذا فعلت بمن نكّل بك هذا التنكيل لمّا قامت الثورة؟
– انتظر أسق لك حكاية أخرى من حكايات عمري:
لمّا بلغ أبي سنّ التقاعد بعد 35 سنة من العمل بوزارة الصحّة ممرّضا حرموه جراية التقاعد ولمّا استفهم عن أمره ادّعوا أنّ ملفّه قد ضاع ولم تبق من علامة تدلّ على سنيّ عمله؟ ودخلنا بفعل ذلك نفقا أشدّ ظلاما…
– صار سؤالي أشدّ إلحاحا الآن… فأنت مشروع قنبلة يُخشى تفجّرها في كلّ حين… لا أظنّ حقدا تربّى بين غير جنبيك… ضحك عن أسنان بيضاء لم يمسّها سوء وقال:
– لمّا أحرق الشباب مركز الشرطة في قريتنا أتعرف ما الذي فعلت؟
– ؟
– جمعت بعض المال من العائلات واستعنت ببعض الشباب لترميم المركز وذهبت في طلب رجال الشرطة الذي فرّوا وطلبت إليهم مواصلة عملهم حماية للناس وممتلكاتهم ووعدتهم بان لا يصيبهم من الناس سوء… فكانوا كلّما استعصى عليهم أمر دعوني للتدخّل لدى الناس وبذلك صرت أنا رئيسهم… أرأيت؟
قلت:
– من أي طينة أنت؟
ضحك عند ذلك توقّف المترو في محطّة 10 ديسمبر فصافحني الفتى ودعا لي وانطلق… ومن خلف زجاج المترو رأيته يرفع يده:
– السلام عليكم…

Exit mobile version