الإثنين 23 يونيو 2025
أحمد الرحموني
أحمد الرحموني

من يرث جدتي ؟!

أحمد الرحموني
رئيس دائرة بمحكمة التعقيب ورئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
أحد الذين لا أعرفهم وجه سؤالا قانونيا إلى إحدى الصفحات القضائية التي أشرف عليها: توفيت جدتي وتركت أبناء بنت متوفاة قبلها وابن أخ شقيق، فمن يرث جدتي ؟
وباعتباري معنيا بالجواب أجبته في الحين أن “أبناء البنت من الطبقة الأولى لهم ثلث التركة بموجب الوصية الواجبة، للذكر مثل حظ الانثيين، ولابن الأخ الشقيق الثلثان الباقيان باعتباره عاصبا، يرث جميع المال عند انفراده”.
ومن الواضح أن السائل هو حفيد للبنت (مع إخوته ذكورا وإناثا) وجاء يسأل عن حصته من تركة جدته للأم. وربما كان في ذهنه لبس أو ثأر بينه وبين الوريث الآخر نزاع حول المستحق لإرث المتوفاة !.
لكن يظهر أن الجواب لم يعجبه أو لم يصادف ما توقعه. وقد استنتجت ذلك من رده الذي تضمن ترددا في التسليم بالجواب: يقول الله تعالى “وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ۚ “( 176/ النساء) يعني الأخ لا يرث أخته إلا إذا لم يكن لها أبناء. فكيف يرث إبن الأخ في هذه الحالة ونحن أبناؤها؟!”.
ومن هنا تيقنت أن السائل يرى أنه أولى بإرث جدته وأن إبن الأخ الشقيق هو أبعد من أن يدعي إرث عمته المرحومة !.
وحتى أكون أكثر دقة، فإن جملة من المعطيات لم أقدر عند جوابي السريع أهميتها في هذا النزاع (إن كان هناك نزاع فعلا!) وهي تاريخ وفاة الهالكة (هكذا يقول الفرضيون من أهل الإختصاص) وطبقة أولاد البنت.
وترتبط أهمية تلك المعطيات من جهة أولى بكون تاريخ الوفاة يعتبر فاصلا في مدى استحقاق أولاد البنت بموجب الوصية الواجبة التي صدر بشأنها القانون عدد 77 لسنة 1959 المؤرخ في 19 جوان 1959. وبمقتضى هذا القانون أضيف الفصل 191 من مجلة الأحوال الشخصية الذي تضمن (من جملة أحكامه) أن “من توفى وله أولاد إبن ذكرا أو أنثى مات والدهم أو والدتهم قبله أو معه وجبت لهؤلاء الأولاد وصية على نسبة حصة ما يرثه أبوهم أو والدتهم عن أصله الهالك باعتبار موته إثر وفاة أصله المذكور بدون أن يتجاوز ذلك ثلث التركة”.
ومؤدى ذلك أنه على فرض وفاة الجدة قبل دخول ذلك القانون حيز التنفيذ لا يبقى مجال لاستحقاق أولاد البنت (إبن البنت – بنت البنت) باعتبارهم من غير الوارثين واقتصار ميراث الأحفاد على أولاد الإبن مهما نزلوا (إبن الإبن – بنت الإبن وأبناؤهما).
أما من جهة ثانية فإن طبقة أولاد البنت تبدو مهمة بنفس القدر -في صورة وفاة الهالكة بعد 19 جوان 1959- بالنظر لما نص عليه الفصل 192 من مجلة الأحوال الشخصبة من أن هذه الوصية لا تنصرف “إلا للطبقة الأولى من أولاد الأبناء ذكوراً أو إناثاً وتقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين”.
وبناء على ذلك فإن ميراث الجدة في كل الأحوال يكون من نصيب إبن أخيها الشقيق ويزاحمه أولاد البنت من الطبقة الاولى في صورة وفاة المورثة بعد دخول القانون المؤرخ في 19 جوان 1959 حيز التنفيذ.
ورغم أن ذلك كان واضحا من حيث القانون فقد كشف لنا السائل في مراسلة لاحقة تفاصيل أخرى من هذا النزاع الذي أصبح حقيقيا: من ذلك، أن محكمة الناحية أقامت حجة وفاة الهالكة وقد تضمنت أن الورثة هم الأحفاد للبنت فقط، فتصرف هؤلاء في الميراث وفوتوا منه في عقارات ثم بعد شهر من ذلك أصلحت المحكمة حجة الوفاة وأضافت إلى قائمة الورثة إبن الأخ الشقيق.
ودون الدخول في التداعيات المترتبة عن ذلك، وخصوصا مال البيوعات الصادرة عن أولاد البنت لفائدة الغير فيما يتجاوز مناباتهم القانونية (وهو موضوع يطول القول فيه)، يمكن لنا أن نتساءل في غياب حجة الوفاة من بين أيدينا: كيف حرر القاضي حجة الوفاة الأولى؟.
من الواضح أنه أسقط إبن الأخ الشقيق، لكن كان عليه أن يعلم أن أبناء البنت ليسوا من الوارثين ولا يمكن لهم أن ينفردوا بكامل الميراث. وتبعا لذلك كان عليه أيضا -في غياب علمه بوجود وارث من صنف ما يسمى “العصبة النسبيين” (أي الأشخاص الطبيعيين)- أن ينص على ميراث صندوق الدولة بصفته عاصبا بنفسه (الفصلان 87 و114 من مجلة الأحوال الشخصية).
لكن وبعد كل هذا أليس مشروعا أن نجد جوابا لصاحبنا الذي مازال يعتقد راسخا أنه أقرب لجدته وهو إبنها (أو في مقام إبنها) ؟.
ربما يكون ذلك صحيحا إما بالنظر إلى “الإحساس العاطفي” المتبادل بين الجدة وحفيدها وإما بالنظر إلى “الواقع الإجتماعي” الذي يرى أن لا فرق في القرابة بين أولاد الإبن وأولاد البنت لأنه لا فرق من حيث المبدإ بين جهة النساء وجهة الرجال.
وربما يصل هذا التساؤل ببعضهم إلى حد التعجب: عجبا هل يمكن أن أفرق بين أولاد إبني وأولاد إبنتي وهم في علاقتي بهم سواء؟!. أليس غريبا أن يرث بنو أبنائنا ويحرم بنو بناتنا دون تعليل؟!. أليس هذا شبيها بما يروى عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من أنه كان يقول: عجبا للعمة تورث ولا ترث؟! (رواه مالك في الموطا) أي يرثها أبناء أخيها ولا ترث منهم شيئا.
وتوضيحا لهذا فإن جملة من المعطيات الأساسية تفرض نفسها:
أولاها: أن قانون الميراث التونسي -المستمد بصفة أصلية من الفقه الإسلامي السني المالكي- قد تبنى نظاما للقرابة يعتمد على مفهوم “العصبات” أي القرابة من جهة الذكور مهما علوا أو نزلوا.
وعلى هذا الاعتبار فإن الأقرباء من جهة النساء أو بواسطة النساء -باستثناء الوارثين بالفرض- لا استحقاق لهم بوصفهم من طبقة ذوي الأرحام. ويورد القانون من أمثلة هؤلاء بنت الإبن وإن سفلت المنفصلة بأنثى كبنت بنت الإبن أو ابن بنت الإبن (الفصل 90 من مجلة الأحوال الشخصية).. وعموما من لا فرض لها من الإناث كالعمة وبنت العم وبنت الأخ (الفصل 120 من مجلة الأحوال الشخصية).
واستنادا إلى التفريق بين قرابة العصبات وقرابة ذوي الأرحام فرق القانون بين أولاد الأبناء من جهة وأولاد البنات من جهة أخرى متفقا في ذلك مع التقليد السني ونظام القرابة الأبوي وقول القائل:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وهو ما أدى إلى تقديم العصبة البعداء عن ذوي الأرحام وإن قربوا واعتبار أقارب البنات بمنزلة الأجانب (كما في وضعية الحفيد للبنت التي نحن بصددها).
ثانيها: أن قانون الميراث الحالي يفرق -تبعا لما سلف بيانه- بين القرابة من جهة النساء والقرابة من جهة الرجال ليرتب بناء على ذلك استبعاد قرابة الأم (من غير ذوي الفروض) من قائمة الوارثين.
وتطبيقا لذلك تقتضي مجلة الأحوال الشخصية أن “من لا فرض لها من الإناث وأخوها عاصب لا تصير عاصبة بأخيها كالعم مع العمة وابن العم مع بنت العم وابن الأخ مع بنت الأخ فالمال للعاصب وليس لأخته منه شيء” (الفصل120) .
وأخذا بهاته القاعدة لا يمكن -في الوضعية المعروضة لدينا- أن يرث إبن الأخ الشقيق مع أخته أو إبنة عمه لنفس السبب.
ثالثها: إن أحكام الميراث -طبق المذاهب السنية- تختلف في هذه المسألة وغيرها عن نظام الميراث في الفقه الشيعي (الجعفري) حتى أن تطبيق هذا الأخير على وضعية السائل تؤدي إلى النتيجة العكسية، حيث يرث أولاد البنت كامل التركة دون إبن الأخ الشقيق الذي يعد من القرابة البعيدة!.
ونشير في هذا السياق إلى أن الفقه الشيعي يقسم مراتب الورثة إلى ثلاثة:
أولها مرتبة الأبوين والفروع (ذكورا واناثا). وذلك دون أي تفريق بين أولاد الأبناء وأولاد البنات. وثانيها مرتبة الأجداد والإخوة والأخوات وأولادهم. وثالثها مرتبة الأعمام والأخوال والعمات والخالات وأولادهم.
وتبعا لهذا التقسيم فلا يمكن لوارث من الطبقة الدنيا أو الوسطى أن يرث عند وجود وارث من الطبقة العليا. وعلى هذا الاعتبار فإن وجود أولاد البنت من المرتبة الأولى (طبقة الأبوين والفروع) يحول دون ميراث إبن الأخ الشقيق الذي بنتسب إلى المرتبة الثانية من الوارثين.
كما لا يفرق الفقه الشيعي بين النساء والرجال في مفهوم البنوة ويستبعد تماما نظرية التعصيب. ففي حين يقصي الفقه السني وأساسا المذهب المالكي (وكذلك القانون التونسي) فروع البنات من الميراث فإن الفقه الشيعي لا يفرق بين فروع الأبناء وفروع البنات الذين ينتسبون إلى مرتبة واحدة.
رابعها: رغم أن القانون التونسي قد اتجه -بمقتضى القانون المؤرخ في 19 جوان 1959- إلى حجب مراتب الأخوة والعمومة وصندوق الدولة بوجود البنت وبنت الإبن وإن نزلت (الفصل 143 مكرر) فإنه قد أبقى على نفس نظام التوريث السابق الذي يتميز بالتفريق بين جهة النساء وجهة الرجال وإقرار ميراث العصبات فضلا عن إقصاء أولاد البنات من قائمة الوارثين.
إلا أن نفس القانون المذكور قد أوجد لأول مرة الوصية الواجبة للأحفاد من الطبقة الأولى دون تفريق بين أولاد البنات وأولاد الأبناء. ولذلك لم يكن لصاحبنا أن يرث لأنه ممنوع من الإرث! وكان له أن يستحق -مع إخوته ذكورا وإناثا- بموجب الوصية الواجبة.
وبعد ذاك هل لنا أن نعجب من أن يكون إبن الأخ الشقيق (الذي يرث عمته) أقرب إليها من إبن البنت (الذي لا يرث جدته) وهي التي حملتها في بطنها!؟. وأن نعجب كذلك من أنه يرثها وهي لا ترث منه شيئا!؟


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

أحمد الرحموني

لا أحد تحت القانون!

القاضي أحمد الرحموني لا أدري إن كنا نستطيع أن نزعم خصوصا في هذه الظروف أن الناس سواسية …

أحمد الرحموني

حوار بلا وسائط!

القاضي أحمد الرحموني أصبح من الثابت أن الحوار الذي يزمع قيس سعيد تنفيذه بعد تنظيمه بأمر رئاسي …

اترك تعليق