الطيب الجوادي
كان يرافقني إلى المدرسة، صديق وفيّ يصرّ أن يصطحبني حتى سورها الخارجيّ ولا يعود إلا إذا صددته ونهرته: إنه كلب العائلة الذي نعتبره جميعا الملاك الراعي والحارس الأمين والصديق الصدوق الذي لا تستقيم حياتنا بدونه!
فقد كنّا نعوّل عليه في حراسة بيتنا المتواضع وبقرتنا الوحيدة وحمارنا، وكانت هنيّة تخصّه باهتمام لا مثيل له وكأنه أحد أفراد العائلة، فتطعمه بيدها وتتفقّد وثاقه وتتعهده المرّة تلو المرة أيام البرد والثلج، وكان معروفا لدى أهل القرية جميعا بشراسته فكنّا في مأمن من اللصوص والغرباء!
يودعني كلبنا عند باب المدرسة ثم يعود من حيث أتى وبمجرد أن أتجاوز باب السور عائدا إلى البيت، أجده رابضا في نفس الموضع، وما أن يراني مقبلا حتى ينبح نبحات مبحوحة كأنها عبارات ترحيب ثم يسرع إلي وهو يبصبص بذيله ثم يقف على قائمتيه الخلفيتين فيتلمس صدري بقائمتيه الأماميتين، ويتشممني، ثم يندفع أمامي راكضا بأقصى سرعة مرة، وبهدوء وأناة مرة أخرى، وفي كل مرة كان يقترب منّي، ويدور حولي وينفذ بين ساقيّ، وكانه يذكّرني أنني الأقرب إليه من الجميع، وكان أبناء الدوار مولعين جميعا بملاعبته وتدليله ومشاركته طعامهم كأنه واحد منهم.
ومازلت أذكر ذلك اليوم الحزين يوم غادرت المدرسة ولم أجد الكلب في موضعه المعهود في انتظارنا ! صرخنا جميعا بصوت واحد يختزل كلّ التوجس والخوف الممكنين:
وينو الكلب، اشنوة جرالو !
وأسرعنا جميعا نحو الدوّار لا نلوي على شيء، واندفعنا داخل الحوش، فإذا هنيّة تنشج بصوت منخفض وإذا الدموع تخضب لحية الوالد، وإذا الكلب ممدد أمامهما، وبمجرد أن اقتربت منه حاول أن يتحرك نحوي كما كان يفعل دائما ولكنه لم يقو على تحريك جسده، فألقيت بنفسي عليه أحتضنه بحرارة وأمسّح على جسده وألثم وجهه وأنا أبكي بكاء مرّا، فأمسكت هنيّة بذراعي واحتضنتني وأخذتني بعيدا عنه وهي تغمغم: قاعد يطلّع في الرّوح، خليه يموت في عقلو.
دسست رأسي في حجر هنيّة ورحت أبكي كما لم أبك من قبل، وتحلق حولنا أبناء الدوار يشاركوننا مصابنا الجلل باكين حزاني، وامتنعنا جميعا عن العودة إلى الحصة المسائية التي تنطلق مع الواحدة ظهرا.
ومع الساعة الرابعة، اختلج جسده بعنف ورفع رأسه قليلا، وحدجني بنظرة انغرست في أقصى جسدي، ثمّ أسلم الروح.
يومها التقيت بالموت وجها لوجه لأول مرة في حياتي، شعرت باليتم والضياع، وتسرّبت مرارة الفقد إلى أقصى وجداني الهش فأربكت وعيي الغضّ وأفقدتني متعة الحياة لأيام طويلة.