حقوق الأقليات وحقوق الأكثريات

محمد مختار الشنقيطي
كنت -وما زلت- من أشد المدافعين عن المساواة في المواطنة بين المسلم وغير المسلم في دول العالم الإسلامي، ومن أشد الناقدين لبعض الاجتهادات الفقهية العتيقة التي وقعتْ في داء التمييز في الحقوق على أساس المعتقد، وأدت إلى تراجع حقوق أهل الكتاب كثيرا تحت حكم الإمبراطوريات الإسلامية التي استظلوا بظلها، فساد التضييق عليهم في قضايا عباديةٍ مثل بناء الكنائس، وسياسيةٍ مثل تقلد المناصب العامة، وعسكريةٍ مثل تملُّك الخيل والسلاح، واجتماعيةٍ مثل فرض زيٍّ خاص عليهم أحيانا.
وقد ابتكر الملوك والفقهاء بأثَر رجعي ذرائع لكل هذا التضييق لا أصل لها في الوحي الإسلامي، سرعان ما تحوَّلت جزءاً من الفقه السائد، حتى أفتى بعض الفقهاء بمنع أهل الذمة من لُبْس العمائم، وعللوا ذلك -كما نقل عنهم ابن القيم في كتابه (أحكام أهل الذمة)- بأن “العمائم تيجان العرب، وعزُّها على سائر الأمم من سواها، ولَبسَها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، فهي لباس العرب قديماً، ولباس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، فهي لباس الإسلام.” وهذا مثالٌ بليغ على تحويل الأعراف الاجتماعية ديناً يدين به المسلمون، ويسعون للتميُّز به عن الآخرين.
أما غير أهل الكتاب فقد مال العديد من الفقهاء إلى القول بمطلق قتالهم، وإلى حرمانهم حتى من هذه الحقوق المنقوصة، ورفضوا مسالمتهم مقابل أخذ الجزية منهم -كما جرى عليه الأمر قديما مع أهل الكتاب- رغم مناقضة ذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي صح عنه أنه سالم المجوس وأخذ الجزية منهم، وقد استنَّ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بهذه السنَّة في خلافته حالما علم بها، حيث “لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر” (صحيح البخاري).
وإذا كنا ضد قهر الأقليات غير المسلمة، وضد التحيز والتمييز ضدها، فنحن -من باب أولى- ضد قهر الأغلبية المسلمة، أو مصادرة خيارها في تحصين مرجعيتها الإسلامية في دستور يلتزم به قادة الدولة، مسلمين كانوا أو غير مسلمين. فمن حق الأكثريات المسلمة أن تنص على الإسلام دينا رسميا للدولة، بما يترتب على ذلك من رمزية الإسلام الثقافية، ومرجعيته الأخلاقية والقانونية. وليس المسلمون في ذلك استثناء، فقد اتخذت العديد من الدول ذات الغالبية المسيحية والبوذية دياناتٍ رسمية لها، بل ونصت على ذلك في دساتيرها، وبعض هذه الدول حدد مذهبا معينا في دينه، احتراما لحق الأغلبية من شعبه. ولو كانت ديانات شعوب تلك الدول تشبه الإسلام في ثرائه التشريعي لوجدنا التنصيص على تلك الديانات مصدرا للقوانين أيضا.
فمن الدول التي نصت دساتيرها على المسيحية الكاثوليكية ديانة رسمية لها بشكل صريح: الأرجنتين، والمكسيك، وهندوراس، والسلفادور، ومالطا، وموناكو، والأورغواي، وليشنستاين، والبيرو، وكوستاريكا، وأندورا، وبنَما. مع نص دستور الأرجنتين على دعم الحكومة المركزية للكنيسة الكاثوليكية، ونص دستور بنَما على تدريس الكاثوليكية في المدارس الرسمية (انظر المواد رقم 2 من دستور الأرجنتين، و24 من دستور المكسيك، و103 من دستور هندوراس، و26 من دستور السلفادور، و2 من دستور مالطا، و9 من دستور موناكو، و5 من دستور الأورغواي، و2 من دستور ليشنستاين، و50 من دستور البيرو، و75 من دستور كوستاريكا، و103 من دستور أندورا، والمادتان 35 و107 من دستور بنَما.)
ومن الدول التي نص دستورها على المسيحية الأرثودوكسية ديانة رسمية لها: اليونان وجورجيا، وبلغاريا. (انظر المادة 3 من دستور اليونان، و9 من دستور جورجيا، و13 من دستور بلغاريا). ونصت دساتير دول أوربية على المسيحية اللوثرية ديانة رسمية لها، ومن هذه الدول: الدنمارك وأيسلندا والنرويج، مع نص دستوريْ الدنمارك وأيسلندا على دعم الدولة وحمايتها للكنيسة التي تمثل هذا المذهب المسيحي تحديداً (انظر المواد رقم 4 من دستور الدنمارك، و62 من دستور أيسلندا، و16 من دستور النرويج). وترَك الدستور السويسري تحديد العلاقة بين الدولة والكنيسة لسلطة الأقاليم (انظر المادة 72 من دستور سويسرا). وجعل دستور أرمينيا الكنيسة الأرمنية “كنيسة وطنية” للدولة (انظر المادة 8 من دستور أرمينيا). وتبنت دول آسيوية البوذية ديانة رسمية للدولة، ومن هذه الدول سيريلانكا، وبوتان، وماينمار (انظر المواد 9 من دستور سيريلانكا، و3 من دستور بوتان، و361-363 من دستور ماينمار).
ورغم وجود ديانات رسمية ووطنية في دساتير العديد من دول العالم -ومنها ديمقراطيات عريقة في أوربا الغربية- تستكثر بعض النخب العلمانية، وبعض الكنائس المسيحية في المشرق العربي على الغالبية الساحقة من المسلمين النص على الإسلام ديانة رسمية، أو التنصيص على مرجعية الإسلام التشريعية في الدستور. فتجْهد تلك النخب وهذه الكنائس في فرض الخيار العلماني على الغالبية المسلمة، في حين أن بعض هذه الكنائس -مثل الكنيسة القبطية في مصر- تتشبث بالصلاحيات التي منحها إياها نظام الملة القديم -حتى صارت أشبه ما تكون بدولة داخل الدولة- مع دعوتها إلى المواطنة المتساوية في الوقت ذاته!! وهذا أمر أدركه الدكتور طارق البشري، فلاحظ في كتابه (الكنيسة والدولة) “ظهور الإدارة الكنسية بمظهر من يمارس سلطة الدولة على بعض رعايا هذه الدولة من المسيحيين،” (ص 21)، وأوضح مخاطر “هذا المسلك الانسلاخي” (ص 25) على تماسك الجماعة الوطنية المصرية، الذي يناقض تاريخا طويلا من التعايش والتماسك في ظل المرجعية الإسلامية التي تدين بها غالبية المصريين، فهذه “أول مرة يبرز هذا الموقف القبطي المنافي لإسلامية الدولة والمجتمع.” (ص 63).
وما لاحظه طارق البشري من “موقف انسلاخي” يتطابق مع ما لاحظه عزمي بشارة في كتابه (هل من مسألة قبطية في مصر؟) في تصريحات بعض الحركيين المسيحيين المصريين من “موقف انعزالي قبطي ينقض ذاته. فهو موقف يطالب بالمساواة، وهو في الوقت ذاته ينقض إطارها الحضاري والمدني المشترك الذي يجمع المواطنين المصريين.” (ص41)، كما يتفق بشارة مع البِشْريّ في نقد التناقض في موقف الكنيسة القبطية في هذا المضمار، حيث “كان من مصلحة الكنيسة إعادة الأقباط إلى التصرف باعتبارهم ملة مستقلة ذاتيا تقودهم الكنيسة، بينما كانت تطالب الدولة بتطبيق حقوق المواطنة في الوقت ذاته.” (ص50).
ونحن نرى أن لا حل غير المواطنة المتساوية ضمن الجماعة الوطنية الواحدة، بعيدا عن مواريث الفقه الإمبراطوري القديم، وعن نوازع العزلة الطائفية الجديدة. فلا بديل عن المواطنة المتساوية التي لا منة فيها من حاكم على محكوم، أو من أغلبية على أقلية. لكن إنصاف الأقليات غير المسلمة في الدول العربية والإسلامية غير متاح دون إنصاف الأكثريات المسلمة. ومن إنصاف الأكثريات احترامُ خيارها في صياغة بناء دستوري وسياسي منسجم مع منظورها الأخلاقي والتشريعي. فأكبر خطأ يمكن أن تقع فيه الأقليات غير المسلمة في العالم العربي والإسلامي هو اعتبار كل قوة سياسية إسلامية عدواًّ، واعتبار كل أسلمة للفضاء العام اضطهاداً. والواقع أن الوحي الإسلامي -مقروءا في سياق الدولة العقارية المعاصرة لا الإمبراطوريات العتيقة- هو الذي يضمن أساسا أخلاقيا صلبا لحقوق الأقليات غير المسلمة، كما بينته في دراستي عن (الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية) التي تصدر قريبا بإذن الله.
ومن إنصاف الأكثريات المسلمة احترام خيارها في جعل الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للقوانين -الحاكم على ما سواه من مصادر عند التزاحم- في الدول ذات الغالبية المسلمة، فكل استبعاد للشريعة من قوانين هذه الدول سيكون مصادرة لخيار الغالبية من مواطنيها، وفتحا لصراع اجتماعي دائم يمنع بناء الإجماع الأخلاقي الضروري لأي حياة سياسية ذات معنى. وقد آن الأوان أن يدرك العلمانيون وأبناء الأقليات غير المسلمة أن من الإجحاف إنصاف الأقلية بظلم الأغلبية، وأن يركزوا على المساواة أمام القانون أكثر من التركيز على مصدر القانون، وأن يتجنبوا قياس تاريخنا التشريعي على تاريخ أوروبا التشريعي. فقد ظلت المجتمعات الأوربية محكومة بقوانين رومانية -لا قوانين مسيحية- منذ ما قبل المسيحية إلى اليوم. أما المجتمعات ذات الغالبية المسلمة فقد حكَمها قانون إسلامي أكثر من ألف ومائتي عام إلى حين ظهور الاستعمار الحديث.
لكن استلهام الدولة قيمَ الإسلام في تشريعاتها أو نظامها التربوي، لا يستلزم احتكار المسلمين لأيٍّ من مناصبها، إلا ما كان منصبا دينيا صرفا، فلكل أهل دين ما يخصهم من ذلك. وقد رفضتُ في دراستي عن “الفقه الإمبراطوري والدولة العقارية المعاصرة” -التي نشرتْها جامعة الفاتح في اسطنبول ضمن كتاب (الدولة والمجتمع: رؤية مقاصدية)- أي تمييز ضد المواطنين غير المسلمين في تقلد المناصب العامة، بما في ذلك منصب رأس الدولة، وبينتُ الأساس الهشّ لذلك التمييز من منظور تأصيلي إسلامي.
ومهما يكن من أمر، فإن مشكلة الأقليات لا تنفك عن مشكلة الأكثريات، والمستبد الذي يضطهد الأقلية هو نفسه يضطهد الأكثرية، فالمعركة واحدة، والمصير واحد. ومن مفارقات بعض العلمانيين وأبناء الأقليات الدينية أنهم يكرهون الإسلام أكثر مما يحبون الحرية، ويدافعون عن حقوق الأقليات ويهدرون حقوق الأكثريات. أما شعار العلمانية والليبرالية الذي يرفعه هؤلاء فكثيرا ما يكون مجرد غطاء شفَّاف، تتستَّـر به الأقلياتُ المدلَّـلة، لتمتطيَ ظهْر الأكثريات المغفَّلة. ويتعضَّد هؤلاء في هذا الموقف بقادة القوى الدولية الطامعة، الذين يؤرقهم الاضطهاد المحتمَل للأقليات غير المسلمة أكثر مما يهمُّهم الاضطهاد الواقع على الأكثريات المسلمة.
وأذكُر -حين كنت أدرس تاريخ الأديان بجامعة تكساس في الولايات المتحدة- كيف قرر علينا أستاذ مادة “الديانات الأميركية” كتابا عن دور أقلية (شهود يهْوه) في تغيير منظومة الحقوق الأميركية ذات الصلة بحق العبادة وحق التعبير، من خلال نضالها في المحاكم الأميركية على مدى نصف قرن من أجل ضمان هذه الحقوق للجميع، لا لأبناء طائفتها فقط. فمطالبة الأقليات بالمساواة معينٌ للأكثريات على توسيع أفقها الإنساني، إذا قرأتها الأكثريات تحدياً إيجابيا، لا خطراً وجوديا. فالعدل كلٌّ لا يتجزأ، وميزانٌ لا يُحابِي. لكن أقصر طريق لحصول الأقليات على حقوقها المشروعة في العدل والمساواة الكاملة هو تبني حقوق الجميع، لا بناء هوية حقوقية منفصلة عن بقية المجتمع، ومنسلخة من الرابطة الوطنية الجامعة والفضاء الحضاري المشترك.

Exit mobile version