رؤوف الغشام
ونحن نحتفل بعيد الإستقلال المجيد، نستحضر ذاكرة أبطال قدموا لتونس عديد النجاحات في مراحل متعددة للبناء، إلا أن الوضع الحالي لا يوفر الطعم الخاص على غرار سنوات سابقة، لما وصلنا له اليوم من فشل إقتصادي وتدهور لمعيشة المواطن، ولعل ما لفت إنتباهنا مؤخرا ما أكدته المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك، أن الأسعار سيتواصل إرتفاعها وقد تصل زيادتها بين 20 و 30٪ قبل شهر رمضان. وأمام تعقيد المؤشرات الإقتصادية العامة، يتبين لنا إجمالا أن المشهد متسم بضغط متواصل على القدرة الشرائية للمواطن، في ظل تشريعات جبائية غير مسبوقة، من أداءات وضرائب ورسوم التي تم تشريعها على مستوى مجلس نواب الشعب مبوبة في قانون المالية 2018.
بشكل عام، يتواصل تهديد الفقر عديد فئات الطبقة المتوسطة، وهو من حيث المفهوم أجمع الخبراء أن الفقر هو نتيجة حتمية لظلم إجتماعي واستبداد سياسي وفساد إقتصادي، وأمام الواقع المر الذي يعيشه التونسيون في مستوى المعيشة والشغل والصحة والتعليم، ونعتبر التونسي يتعرض إلى نوع من أنواع التفقير بتضخم في الأسعار بلغ 7.1 % وبطالة فاقت 16% ، وعليه نشخص التساؤل المطروح في المثال التونسي الذي يعيش عديد التناقضات، من ناحية وجود ثروات طبيعية هامة على رأسها الثروات الباطنية والفلاحية والسمكية، وإمكانيات سياحية محترمة في السوق العالمية، وموارد بشرية متعلمة،،،إلخ.. وكل هذا لم ينعكس بالمرة على واقع التونسيين، رغم سقوط نظام بن علي ضلوا يعيشون مستويات متفاوتة من الفقر والحرمان والإقصاء الاجتماعي، فالإدارة تعج بكبار السن ولا نرى الشباب يشاركونه في أخذ المشعل، بحكومة نراها ظاهريا شابة لكن قراراتها نابعة من شيخين.
فبحيث، يعلم الجميع أنه منذ الإستقلال وصولا إلى الحكومات المتعاقبة إبان الثورة، كل الحكومات سعت للتمويه على هذا الواقع بإصدار أرقام وإحصائياتها غير صحيحة لا تعكس واقع الفقر، ينضاف لها تصريحات أحزاب تستخف بعقول التونسيين، بل والأمر من ذلك هي تحمل في طياتها إستغلالا لمعاناتهم في دعاية إعلامية معقدة لتهدئة الوضع أو لغايات سياسية وإنتخابية لا غير، وسرعان ما إكتشف المواطن عبر وسائل الإعلام، حقائق مفزعة عن بارونات فساد وتجارة موازية، والنتيجة مليارات تبخرت ومهدورة نهبها إما أحد رجال الأعمال أو موظف بالدولة هرب إلى الخارج أو تم إيقافه وعرضوه على القضاء…إلخ.
ويعلم الجميع من الحكومات، أن التونسيون اليوم بالجهات الداخلية تقلص إنتفاعهم من أبسط شروط العيش الكريم، بتدهور منظومة التربية العمومية، وغلاء المعيشة المتواصل خلال العقد الأخير، وهذا قلص مستوى الرفاه وأريحية الإدخار مقارنة بالثمانينات وتسعينات من القرن الماضي، الذين يسمونه البعض اليوم في تونس عبر شبكات التواصل الإجتماعي أيام “الزمن الجميل”، رغم وجود فوارق في مرافق العيش بين العقود.
ولعل الوضع، يدفعنا أيضا للتساؤل عن الأسباب الحقيقية التي تجعل من التونسيين يعانون من هذا المستوى من الفقر والحرمان رغم غنى بلدهم سطحا وباطنا، طبيعة وسكانا؟ وعليه، سنحاول من خلال هاته السطور الموجزة، الوقوف على الأسباب السياسية والاقتصادية للفقر، على إعتباره موضوعيا ما هو إلا نتيجة حتمية لخلل في البناء السياسي والاقتصادي للدولة.
1. الأسباب السياسية:
لا يمكن القضاء على الفقر دون تشخيص لمسبباته التي تبدأ من أزمة الحكم، ففي تونس السلطة هي من تتحكم في الثروة، والحكومة دوما هي السياسي الأول والإقتصادي الأول، وضلت العملية متواترة منذ الإستقلال إلى اليوم، وحتى بعد الثورة التي أطاحت ببن علي، نجد اليوم بارونات جديدة تتحكم في الدورة الإقتصادية، وقد لا يمثل لديهم الشعب غير حريف يتنزفونه بتحكمهم في الأسعار، فلا تسأل إذن عن حال شعب ثرواته غير مؤممة ومستبعد عن الرفاه، همه الوحيد تقليص الضغط عن الدخل والتضخم اليومي في أسعار إستهلاكه.
كما أصبح التونسي يعاني يوميا “وجع الرأس” من حديث السياسيين عن الإصلاح والتنمية، غير أنه يعلم أنها غالبا ما كانت ضحكا على الذقون وترويجا للأوهام، وكلّ البرامج التي تكلّموا عنها ضلت وعودا إنتخابية وشعارات جوفاء، ولم تحل لا بطالة ولم تجلب إستثمار ولم تقلص الضغط على “قفة المواطن” بل قلصت منها من فترة لأخرى.
2. الأسباب الاقتصادية:
• الثراء الغير المشروع: بصفة عامة عندما يجمع نظام بين السلطة والثروة، وبتوفر عنصر التناحرات السياسية الضيقة يغيب الوعي الوطني في المحافظة على الطبقة المتوسطة المحركة للدورة الإقتصادية، وهو ما يخلف عديد حالات إستغلال للنفوذ وثراء غير مشروع وإفلات من المساءلة وبالتالي إستفحال للفساد، ويظهر على الساحة نسيج جديد من رجال الأعمال، كما تبرز فئات ثرية على حساب شرائح متعددة من الطبقة المتوسطة تفقرت جراء تضخم الأسعار، في المقابل يتواصل غرق البلاد في مديونية خارجية، وتضل البلاد رهن توجهات وإملاءات المؤسسات الدولية المقرضة.
• تفشي الفساد الاقتصادي: وقد يزيد الوضعَ تعقيدا عندما يشمل الفساد عديد من الإدارات ومؤسسات التابعة للدولة، على غرار: الرشوة وسوء التدبير والمحسوبية وعدم الشفافية والجودة في الإنفاق العمومي رغم وجود أجهزة الرقابة. وقد كشفت تقارير دائرة المحاسبات في تونس البعض من سلوكيات النهب وإهدار المال العام، وهذا ما يوضح أن الفساد مستفحل في عديد القطاعات، و من المريب أن تجد رجال أعمال محليين يعدون على الأصابع هم من يوجهون الاقتصاد، وهم المستفيدين من البرامج الاستراتيجية للدولة، وأيضا من الدعم العمومي في كثير من الأحيان.
• تواصل إرتفاع التضخم: باستمرار إرتفاع الأسعار للسلع والخدمات، وصلنا اليوم تدريجيا إلى إهتراء القدرة الشرائية للمواطنين مقارنة بسنوات فارطة قريبة، حيث ظهرت في تونس طبقة “فقراء جدد” قادمين من الطبقة المتوسطة وعاجزين عن إقتناء كل متطلباتهم، وعليه إتسعت قاعدة الفقر في تونس.
ختاما، وقد يزداد الوضع الاقتصادي الحالي أكثر كارثية بالقرارات المتخذة في قضايا مصيرية، نعتبرها تهدد الإستقرار العام مثل قرار “تعويم الدينار”، لأننا منذ جانفي 1995 وقعنا معاهدة التجارة العالمية بكامل العجز في الاقتصاد، وها نحن إلى اليوم غير قادرين للولوج إلى السوق التنافسية العالمية، ونجد المواطن هو المعول عليه، وربما الوحيد في هذه المسارات المتخبطة في طريق الزيادة في الزيادات المتعاقبة، فهل المواطن يواجه الفقر بعدم فهمه للعولمة ؟ أم أن العولمة والأنظمة هي من تفقره ؟ ليبقى السؤال مطروحا على من يهمهم الأمر: هل يعاني الشعب التونسي منذ الإستقلال من الفقر أم التفقير؟
باحث ومحلل إقتصادي