كمال الشارني
مع تقدمي في السن، أزداد دقة في تلخيص ما أريد، مثلا: أعرف الآن أكثر من أي وقت مضى أني أريد أن أدفع إلى الدولة ضرائبي مقابل أن أتنازل صباحا عن حمل سكين ودبوس وأسلحة أخرى لحماية نفسي وأسرتي وأنا أغادر البيت، معولا على “كلمة رجال” من الدولة لحمايتنا وإقرار “دولة القانون والمؤسسات”.
باهي، حاولوا أن تجدوا دولة القانون والمؤسسات صباحا في مفترقات الطرق الكبرى أو في أي سوق من الأسواق، أو أمام مدرسة عمومية أو في مأوى سيارات همجي، حيث ينفرد بك قطاع الطرق وأنت على مرمى البصر من قوات الأمن، ويلتهمك القهر على أنك لم تأخذ معك “الحديد” بلغة السجون، أي السكين لتسوي الأمر حتى لا يكون “حديد مقابل لحم حي” لمواطن مسالم يؤمن بخرافة حماية الدولة مقابل الضرائب، الآن تذكروا كل مواقف القهر التي يعيشها الإنسان وهوعاجز عن الرد في مواجهة أعوان المؤسسات العمومية.
“تسمع في ماهو ؟ قلت لك: نحن بلغنا مرحلة من الانحدار الأخلاقي حتى أني أصبحت أتلذذ بقراءة أخبار الفضائح والتسيب والسرقة في المؤسسات العمومية، كأنها تحدث عند العدو، ورغم أننا لا نعادي أحدا، فإن كل ما يتعلق بخسائر الوطن أصبح يثير في لذة خفية وشماتة واضحة مرددا: لا قعد فيها، خليها تخرب، أييه زيدنا، محسوب ؟هي حالة مرضية، آش تسموها أنتم ؟ آه، المازوشية. آه وقلت لك: اذا استمرينا على هذه الحال، سوف تتوسع المازوشية إلى التلذذ بمآسي الأقارب، ثم بعذاب النفس وخرابها، الله يعفو بينا”.
أما الوطنية والأغاني الحماسية والاحتيال السياسي باسم الوطن، فهو خدعة عربية بامتياز، تذكرني بما كتبه الكولمبي الفذ غبريال غارسيا ماركيز لخص حالة الوطنية العصابية الخرافية في أمريكا اللاتينية في روايته “El otoño del patriarca”، (خريف الباتريارش أو البطريق)، التي أبدع صالح علماني في ترجمتها إلى العربية، حين يقول على لسان الجنرال الطاغية الحاكم الأزلي الذي يحدث العاهرة أمه التي جعل منها الأم القومية للوطن: “أماه، إن الوطن هو أفضل الاختراعات”، يضيف ماركيز في مكان آخر من الرواية: “الوطنية لم تكن سوى خدعة اخترعتها الحكومة لكي يحارب الجنود مجانا”، كما لو كان يتحدث عن العالم العربي لما بعد روايته، حيث لا معنى للوطنية إلا استمرار الحاكم في الحكم.