أزمة التربية بين الحاجة إلى التثوير والرغبة في الإصلاح
ناجي خويلدي
تعتبر التربية من أهم الأساليب التي يتم التركيز عليها لتغيير الواقع، لما لها من أهمية في بناء وصناعة الإنسان. والتربية التي تقوم على العنف، والتعسف والتمييز والقهر، والتسلط، ومصادرة الحرية، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تحطيم الفرد، وتدمير المجتمع. فالتربية في بلادنا اليوم، تعاني من أمراض مستعصية استفحلت عبر عقود من الإستبداد والفساد. والإستبداد، بما هو منظومة، أكبر عدو للتربية. فإذا كانت التربية تسعى إلى تفجير طاقات الفرد، فإن القهر يعمل على قتلها. وإذا كانت التربية تهدف إلى بناء شخصية الإنسان بشكل شامل، ومتكامل، ومتوازن، فإن الإضطهاد ينتج شخصية ضعيفة، ومشوهة، ومضطربة، وغير متوازنة. وإذا كانت غاية التربية إعداد الفرد المفكر، والمبدع، والمتفوق، فإن الإستبداد يؤدي إلى تدمير مهارات الإنسان، وشل قدراته، وتعطيل طاقاته، والحد من إبداعه لتسهل السيطرة عليه وتطويعه.
ومن أخطر ما يعانيه نظامنا التربوي إنعدام تكافئ الفرص بين المتعلمين، أو ما يسمى بالتمييز التربوي، وقد عُرَف التمييز التربوي، وفق الاتفاقيات الخاصة بمكافحة التممييز في مجال التعليم، التي أبرمت في عام 1960، كما يلي: “أي تفرقة، أو إستثناء، أو قصر، أو تفضيل يجري على أساس الجنس أو اللغة، أو الدين، أو المعتقدات السياسية، أو غيرها، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الحالة الإقتصادية، أو المولد، يقصد منه، أو ينشأ عنه إلغاء المساواة في المعاملة في مجال التعليم أو الإخلال بها” -تقرير عن التربية في العالم، اليونسكو، 1993، ص45-. إن التمييز التربوي وفق التعريف السابق، مشكلة يعانيها تعليمنا، ومن مظاهرها استئثار المدن بمعظم الإمكانات والإمتيازات التعليمية على حساب المناطق الريفية الشاسعة، وتناقص الفرص التعليمية للفقراء والنساء. فالوضع الإجتماعي للمتعلم يكون هو المحدد الأساسي لمستوى التعليم ومضمونه. والحاصل الآن أن التعليم: منهجا، وإدارة، ونظاما، وقبولا، وسياسة، يتحيز بدرجة كبيرة للأغنياء. فالأغنياء هم المستفيدون الأساسيون، رغما عن قلتهم، من معظم فرص التعليم وثماره في مستوياته المختلفة. أما الفقراء فنصيبهم من التعليم متواضع، وفرصهم فيه محدودة لأن المنظومة التعليمية المتشكلة خلال وعبر منظومة الاستبداد والفساد المنخرطة والمستفيدة من ظاهرة العولمة المفتتة لكل المؤسسات العمومية والتي قامت ضدها ثورة الحرية والكرامة، تهادن الفقر بدلا من أن تتصدى له لمحاربته بالمواجهة المباشرة والشاملة، وتضييق الخناق عليه، تمهيدا لقطع دابره بين الناس. فنسبة كبيرة من أبناء الفقراء ما إن تلتحق بالمدرسة حتى ترسب أو تتسرب. ويبرز التمايز الاجتماعي واضحا عند التوجيه المدرسي، ليكون أكثر وضوحا في مرحلة التوجيه الجامعي. إلى جانب التمييز الاجتماعي، يعاني تعليمنا أيضا مما يسمى بالتمييز الجغرافي، والمقصود به عدم تحقيق مبدأ تكافئ الفرص التعليمية بين أبناء المدن والريف، رغم محاولة توسيع شبكة المدارس في نهاية خمسينات وبداية ستينات القرن الماضي، والتي تُركت فيما بعد لتصارع التهميش بطاقمها التربوي وتلامذتها وحاضنتها الريفية وحتى الحضرية خاصة بالأقاليم الداخلية، ليشمل هذا التهميش تدريجيا كل المؤسسات التعليمية العمومية في كل الأقاليم دون استثناء. ومن النتائج الكارثية لهذا الوضع أننا نعيش فعلا تعليميا تعلميا ينتج في سيرورته التعليمية التًعلُمية الأمًية والجهل، أي أطفال لم يتمكنوا من التعلًمات الأساسية، من قراءة وكتابة ورياضيات، خلال مسارهم الدًراسي، وكأنهم لم يستفيدوا من ولوج المدرسة، والتمتع بحق التمدرس. وهو ما يعني بصريح الوقائع الملموسة، أننا لسنا أمام مؤسسات مدرسية، بقدر ما نحن داخل مقابر جماعية لجثث أطفال سلبت منهم أرواحهم/أحلامهم، وأُرغموا دون وعي منهم على البقاء الاجتماعي التربوي، لتزيين مشهد الإختلالات، والتخبط، والإرتجال، وهيمنة عقلية أداتية إجرائية في بعدها السلطوي التراتبي الإداري تفتقد الرؤية المستشرفة للمستقبل. وهذا الوضع أدى بالضرورة إلى خسارة تمس الإنسان في مشروعه الشخصي والوجودي، وأصبح من الصعب الحديث عن ثقافة التربية على القيم، والمواطنة، وحقوق الإنسان، وبناء المجتمع الديمقراطي. الأمر الذي ترغب فيه القوى المتربصة بالثورة.
وأمام عجز الأطر المعنية بما سمي بـ”الإصلاح التربوي” عن تقديم أي تصور لمعالجة أزمة التعليم، لأنها أطر حملت في ذواتها بذور عجزها، لتأسًسها على الفرز الأيديولوجي، واستبطانها لثقافة الإستبداد المتجلية من خلال أفعال التسويف والتعمية والقفز على الواقع لتأبيد الكارثة. هذا الواقع الذي هو مسار ثوري، يشترط أفعالا من جنسه، مبنية على الجرأة والصدق والوضوح والجدية. أصبحت الحاجة أكيدة إلى إيجاد رؤية تنطلق من الواقع الملموس وتخضع له في منهجيتها، ومختلف أشكال مقارباتها. ولا تقوم بليً عنقه لينسجم مع قوالبها النظرية، التي تكون في الغالب مستوردة بإكراه، وفق مصالح مؤسسات مالية ونقدية أجنبية، وغريبة عن الواقع المعيش. رؤية تستفيد مما أتاحته ثورة الحرية والكرامة من إمكانات هائلة للتنظم والتفاعل الحر الواعي والمسؤول، وترتكز على بحوث معرفية وعلمية ميدانية يساهم فيها الفاعلون في التربية، وفي مختلف مستويات التعليم، مساهمة فعلية، وتشارك فيها كل مكونات المجتمع المدني من جمعيات معنية بالشأن التربوي وأحزاب سياسية، دون إقصاء أو تهميش، وبعيدا عن التجاذب الأيديولوجي والحسابات السياسية الضيقة. ويشرف عليها مجلس أعلى للتربية.
إن التربية، في حساب مصائر الشعوب المرتكزة على المواطن كمصدر وحيد للشرعية، لا تقل أهمية عن القضاء الذي جوهره العدل باعتباره أساس العمران البشري حسب التعبير الخلدوني، فموضوعها الطفولة، القلب النابض للمجتمع، والخزان لأحلام المستقبل الواعد بالتنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإنسانية على كل المستويات، وهي التي ستحقق العدل وتبدع وتبتكر في كل المجالات، لتتبع الثورة السياسية -ثورة الحرية والكرامة- بثورة علمية في إطار تعليم عمومي يحظى بأولوية على كل المستويات وتتكافأ فيه الفرص للجميع.