الأربعاء 12 مارس 2025
أحمد الرحموني
أحمد الرحموني

قضاة في “المزاد السياسي” !

أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
من المؤكد ان الانتخابات التي تجرى لأربعة أعضاء من المحكمة الدستورية منذ ثلاثة اسابيع في رحاب مجلس نواب الشعب تكتسي -مهما كان تقييمنا- أهمية بالغة لأسباب مختلفة لعل أقربها بداهة هو ان تلك الانتخابات (التي طال انتظارها!) تنتظم لأول مرة في تاريخ البلاد بقصد تشكيل محكمة واختيار قضاة لعضويتها والتصويت عليهم طبق إجراءات علنية وغير مسبوقة.
لكن رغم ذلك يبدو ان التوقعات الكبرى التي يعلنها السياسيون ونشطاء المجتمع المدني في علاقة بإرساء المحكمة الدستورية لا تتناسب -باي وجه- مع طبيعة المحكمة وإجراءات تكوينها وحدود عملها طبق الصيغة التي تم اقرارها سواء في الدستور أو في القانون الأساسي المتعلق بها.
وبعيدا عن دواعي المبالغة التي تدفع البعض إلى اعتبار المحكمة “شرطا جوهريا لانقاد مسار الانتقال الديمقراطي من الانهيار بصفتها الهيكل المكلف بحراسة وصيانة النظام الديمقراطي ودولة القانون والمؤسسات” (من بيان صادر عن مركز دعم للتحول الديمقراطي وحقوق الانسان بتاريخ 14 مارس 2018) نشير إلى ما سبقت ملاحظته -عند نقاش مشروع القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية- من أن هذه المحكمة لا ترقى إلى مستوى المعايير الدولية (مقالنا تحت عنوان “المحكمة الدستورية ومحاذير التسييس – موقع تدوينات بتاريخ 4 نوفمبر2015).
ولا يخرج هذا الاستنتاج عن مضمون ما عبرت عنه بعض المنظمات الدولية ذات الاختصاص في تقرير موجه بالأساس إلى لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب (تقرير اللجنة الدولية للحقوقيين تحت عنوان “تونس: مشروع القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية على ضوء القانون الدولي والمعايير الدولية – أكتوبر 2015).
ويلاحظ أن تقرير اللجنة الدولية للحقوقيين -وهي من أكثر المنظمات الدولية احتراما في مجال اختصاصها- قد تركز حول المقتضيات المتعلقة بتركيبة المحكمة وصلاحياتها وشروط ولاية القضاة وضمانات الاستقلال الاخرى.
وقد انتهت اللجنة صاحبة التقرير إلى القول بأنها قلقة من أن عملية التعيين الخاصة بقضاة المحكمة المنصوص عليها في الدستور ومشروع القانون غير متناسقة مع المعايير الدولية لاستقلال القضاء.
ورغم ان اللجنة قد أشارت إلى عيوب أصلية ارتبطت بخيارات التصور الدستوري إلا أنها أكدت مخالفة المشروع -الذي عرض وتمت المصادقة عليه- لمقومات استقلال القضاء بالنظر خصوصا إلى خطر التسييس الناشئ عن تعيين أغلبية القضاة في تلك المحكمة من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وفي هذا الخصوص ينص القانون الاساسي عدد 50 لسنة 2015 المؤرخ في 3 ديسمبر 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية على تداخل الكتل البرلمانية ومجموعات من النواب غير المنتمين لهذه الكتل في اختيار أربعة من أعضاء المحكمة فضلا عن تسمية أربعة أخرين مباشرة من قبل رئيس الجمهورية في حين يرجع للمجلس الاعلى للقضاء تعيين أربعة من الأعضاء الاثني عشر (الفصول من 10 الى 13 من القانون الأساسي المذكور).
وعلى هذا الاعتبار لاحظت اللجنة الدولية للحقوقيين أن عدم تعيين أغلبية قضاة المحكمة الدستورية من قبل القضاة أنفسهم يشكل تهديدا حقيقيا يقلل من الاستقلال القضائي ويبرز الدور الكبير الذي تلعبه السلطات السياسية في تعيين قضاة المحكمة بالمقارنة مع القضاء.
وفضلا عن ذلك يبدو أن المحاذير المرتبطة باختيار أعضاء المحكمة الدستورية -التي تعد بصريح قانونها الأساسي هيئة قضائية مستقلة- قد تأكدت بمناسبة تداول الكتل النيابية في الترشيحات المقدمة لعضوية تلك المحكمة وخصوصا من ظروف التوافقات بين تلك الكتل والتصويت على المترشحين في الجلسة العامة.
ويذكر أن اللجنة الانتخابية بمجلس نواب الشعب قد تولت فرز ملفات مرشحي الكتل النيابية لعضوية المحكمة الدستورية والتثبت خصوصا في توفر شروط الترشح المنصوص عليها بالقانون الاساسي للمحكمة وقررت “الاكتفاء بأقل الوثائق الممكنة واعتبار التصريح على الشرف بالصيغة التي تم اعتمادها كافيا لإثبات بعض الشروط ” (انظر تقرير اللجنة الانتخابية حول ترشيحات الكتل النيابية لعضوية المحكمة الدستورية بتاريخ 15 نوفمبر 2017).
ويظهر من الاجراءات التي رافقت فرز ملفات الترشح وتوزيعها بحسب الكتل النيابية والتوافق على المترشحين ارتباط هؤلاء بالأحزاب والكتل النيابية من ذلك أن اللجنة الانتخابية قد تولت -حسب ذكرها- مراسلة رؤساء الكتل النيابية للتنسيق مع مرشحيهم لاستكمال الوثائق المكونة للملفات والحديث بصفة علنية عن حصول توافقات على عدد من المترشحين وتنازع الأحزاب السياسية وتبادل الاتهامات فيما بينها بشان الإخلال بتلك التوافقات.
وفي هذا الخصوص يتضح أن العدد الأصلي للمترشحين المقبولين قد بلغ ثمانية من بينهم 6 مختصون في القانون و2 من غير المختصين وقد ألت التوافقات بين الكتل النيابية المرشحة (وعددها 8) إلى الاتفاق على 4 مترشحين أحدهم من غير المختصين في القانون (وهم العياشي الهمامي و روضة الورسيغني وسناء بن عاشور وعبد اللطيف بوعزيزي).
ولم تسفر النتائج النهائية في آخر دورة سوى عن حصول مرشحة وحيدة وهي القاضية روضة الورسيغني (مرشحة نداء تونس) على أغلبية الأصوات المطلوبة (أكثر من 145 صوتا) وهوما أعاد الجدل بين الكتل حول مدى التزام بعضها بمضمون التوافقات المبرمة (وكالة تونس أفريقيا للأنباء -14 مارس 2018).
ومن الجدير بالذكر أنه “تم الاتفاق، خلال اجتماع رؤساء الكتل البرلمانية مساء الأربعاء 14 مارس 2018 في مقر مجلس نواب الشعب، على عقد جلسة عامة انتخابية صباح الأربعاء القادم (21 مارس 2018 ) لانتخاب ثلاثة مترشحين لعضوية المحكمة الدستورية في دورة ثالثة، والمضي في التوافقات الحاصلة حولهم” (من تصريح رئيس كتلة حركة النهضة – وكالة تونس أفريقيا للأنباء – 14 مارس2018).
ومن الواضح في ضوء ذلك أن البوادر الأولى لتشكيل المحكمة الدستورية قد أظهرت -على مستوى مجلس نواب الشعب- ارتباط المترشحين بالكتل النيابية وبالأحزاب المكونة لها وعدم إخضاع المترشحين إلى معايير موضوعية للكفاءة والنزاهة واقتصار الامر على مراقبة مدى توفر الشروط القانونية والاعتماد على اختيارات الكتل الحزبية والتوافق بينها والتصويت في الجلسات العامة.
ولاشك أن انتخاب القضاة في هذه الظروف ودون مراعاة شروط الاستقلالية والحياد لا يتلاءم أيضا مع المعايير الدولية ويدفع بالقضاة إلى دائرة “المزاد السياسي” التي تخل بموقعهم وبثقة الناس فيهم.
وفي هذا السياق أعادت اللجنة الدولية للحقوقيين في بيان حديث تأكيدها على أن يتم اختيار أعضاء المحكمة الدستورية وتعيينهم “وفقا للمعايير الدولية الخاصة باستقلال القضاء وذلك من خلال عملية شفافة تقوم على أساس معايير موضوعية كالجدارة والنزاهة والمساواة أمام القانون” (بيان تحت عنوان “تونس: يجب تعيين أعضاء المحكمة الدستورية بشكل يمتثل إلى المعايير الدولية” بتاريخ 12 مارس2018).
ويقتضي ذلك بالضرورة أن “يتم اختيار وتعيين جميع أعضاء المحكمة الدستورية على أساس مؤهلاتهم القانونية وكفاءتهم ونزاهتهم الشخصية”. ولذلك يجب على مجلس نواب الشعب عند انتخاب الاعضاء الاربعة “ضمان احترام هذه المعايير تماما وضمان عدم حدوث تعيينات لأسباب غير لائقة بما في ذلك الاعتبارات السياسية والتوافقات بين المجموعات السياسية” (نفس البيان السابق).
ولا يتضمن ذلك باي وجه القدح -ولو بالإشارة- في كفاءة أو نزاهة أو استقلال الشخصيات المحترمة التي ترشحت (أو تم ترشيحها) أو تلك التي فازت أو خابت لاعتبارات سياسية أو غيرها !.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

أحمد الرحموني

لا أحد تحت القانون!

القاضي أحمد الرحموني لا أدري إن كنا نستطيع أن نزعم خصوصا في هذه الظروف أن الناس سواسية …

أحمد الرحموني

حوار بلا وسائط!

القاضي أحمد الرحموني أصبح من الثابت أن الحوار الذي يزمع قيس سعيد تنفيذه بعد تنظيمه بأمر رئاسي …

اترك تعليق