الكواكبي وحسن البنا وحل تنظيم الإخوان
محمد مختار الشنقيطي
يمكن اعتبار عبد الرحمن الكواكبي هو المؤسس النظري لجماعة الإخوان المسلمين، قبل أن يؤسسها حسن البنا تأسيسا عمليا. فمِن بين الإصلاحيين المسلمين المعاصرين امتاز الكواكبي بروحه العملية، واهتمامه بترجمة الفكرة الإصلاحية من فلسفة نظرية تجريدية إلى حركة اجتماعية منظمة. وقد غاب البعد التنظيمي من فكر الكواكبي عن الدراسات المتداولة عنه اليوم، رغم أن جهوده في هذا المضمار قد تكون -بمنطق تاريخ الأفكار- هي البذرة التي أثمرت مختلف الحركات الإسلامية ذات الطبيعة المنظَّمة على مدى القرن المنصرم. وأهمها جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا.
فكتاب “أم القرى” الذي ألفه الكواكبي هو حصاد مداولات مؤتمر افتراضي تخيَّله الكواكبي منعقداً في مكة المكرمة، وجامعاً لعدد من أهل الرأي والفضل من أرجاء العالم الإسلامي، ومن الأقليات المسلمة خارجه، بلغ عددهم ثلاثة وعشرين مشاركا. وقد انتهى المؤتمر -بعد تشخيص العلل التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية- إلى تأسيس جمعية إسلامية عالمية هي (جمعية أم القرى) غايتها حمل رسالة الإصلاح الفكري والاجتماعي والسياسي.
وربما يكون حسن البنَّا من الشخصيات التي لم يهتم الباحثون اهتماما كافيا بصِلتها الفكرية بالكواكبي، رغم أن البنَّا هو الذي واصل جهد الكواكبي التنظيمي أكثر من غيره، وإن كانت تنقصه رؤية الكواكبي التحليلية، وموقفه الصارم من الاستبداد. ومن القلائل الذين انتبهوا إلى الصلة بين الكواكبي والبنّا إسحاق وايزمانْ. ففي دراسته بالإنكليزية بعنوان “عبد الرحمن الكواكبي: الإصلاح الإسلامي والإحياء العربي” أشار وايزمان إشارة عابرة إلى أن (جماعة الإخوان المسلمين) التي أسسها حسن البنا “تجسِّدُ رؤية الكواكبي” التنظيمية التي صاغها في شكل (جمعية أم القرى)، تلك الجمعية التي انتهى مؤتمر (أم القرى) الافتراضي إلى تشكيلها.
ويبدو لنا أن القرابة العقلية بين الكواكبي وحسن البنا عميقة جدا، ومن أدلتها الشبه الكبير في الاصطلاحات، وفي الأنماط التنظيمية، وفي الخطط العملية. فمن حيث الشبه الاصطلاحي، تواتر مصطلح “الإخوان” في كتاب (أم القرى)، فقد ورد لفظ الإخوان في الكتاب وصفاً للمؤتمرين المشاركين في مؤتمر (أم القرى) ثماني وعشرين مرة. منها خمس عشرة مرة ورد بها اللفظ مجردا من أي وصف، وثماني مرات بصيغة “الإخوان الكرام”، وثلاث مرات بصيغة “السادة الإخوان”، ومرتين بصيغة “الإخوان الأفاضل”، ومرتين مسبوقة بصيغة النداء: “أيها الإخوان” و”يا أيها الإخوان،” ومرة واحدة بصيغة “الإخوان الوافدين”.
كما وصف الكواكبي نفسُه أعضاء جمعية “أم القرى” يوم تأسيسها بأنهم “أهل الإيمان من الإخوان” فكتب: “يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة 1316: في الضحى الأول من اليوم المذكور تألفت الجمعية حسب معتادها، وقُرئ الضبط السابق، واستعدت الأذهان لتلقي ما يفيضه الله على ألسنة أهل الإيمان من الإخوان” (أم القرى، 127). وكل هذا يدل على أن البنا قد يكون استعار مصطلح “الإخوان” من الكواكبي.
ومن حيث الخطط العميلة والصيغ التنظيمية جاء القرار ذو الصلة ببلد المقر الدائم لجمعية “أم القرى”، وبطبيعتها السرِّية، معضِّداً للربط بين فكرة الكواكبي ومشروع حسن البنا، حيث “تقرَّر أن يكون تأسيس الجمعية الدائمة ابتداءً في بور سعيد أو الكويت بصورة غير علنية في الأول.” (أم القرى، 211). ثم استقر الأمر على اتخاذ مصر مقرًّا للجمعية، مع بقاء رسالتها ذات طبيعة عالمية، كما ورد على لسان رئيس المؤتمر: “وإن جمعيتنا هذه إذا اختارت أن تجعل مركزها الموقت في مصر دار العلم والحرية.” (أم القرى، 212). وبالطبع اتخذ حسن البنا مصر مقرا لـ(جماعة الإخوان المسلمين)، مع الاحتفاظ بعالمية رسالتها.
ومما يؤيد اقتباس حسن البنا مشروعه التنظيمي من فكرة الكواكبي التنظيمية الشبه بين جمعية (أم القرى) كما تخيَّلها الكواكبي و(جماعة الإخوان المسلمين) كما بناها حسن البنا، من الهدوء والسكينة في بادئ الأمر، والسعي إلى كسب قلوب الحكام لا مواجهتهم. وهو مسلك لم يكن واضحا في الحالتين: هل هو خيار استراتيجي، أم مناورة تكتيكية، أم خطة مرحلية. لكن الذي يترجح -في الحالتين أيضا- أنه كان أقرب إلى الخطة المرحلية. فلم تمنع الكواكبي دعوته إلى أن يكون “مظهر الجمعية العجز والمسكنة” من أن يقبل فكرة “الإلجاء” في أوقات الضرورات (أم القرى، 210). ولم يمنع البنا تودُّده إلى حكام المسلمين والسعي إلى كسب قلوبهم -عبر المراسلات- من إعداد العُدّة لساعة الحسم والمواجهة مع الاستعمار والاستبداد.
ويبقى أن نقول إن حسن البنا، وإن استلهم من الكواكبي اسم “الإخوان،” وهيكلهم التنظيمي، ورسالتهم الإصلاحية في المجال التربوي والاجتماعي، فإنه لم يستلهم منه -بكل أسف- موقفه الصلب من الاستبداد السياسي، وما اتَّسم به تنظيره السياسي من وضوح نظري وأخلاقي في موضوع الحريات السياسية. ولو كان البنا استلهم هذا الشق من فكر الكواكبي، وقدَّره حق قدره، لربما كان تاريخ جماعة الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية التي تفرعت عنها قد سار مسارا آخر.
ويثور جدل هذه الأيام عن تنظيم (الإخوان)، وهل هو ضرورة عملية، أو أنه أصبح عبئا على الفكرة الإصلاحية التي أراد له مؤسسه أن يخدمها. وأود لو أبدي بضع ملاحظات في هذا المضمار، عساها تكون إسهاما في الحوار، وعونا على وضع الأمور في نصابها دون تضخيم أو تحجيم:
• أولا: إن تنظيم أي قوة اجتماعية لنفسها، من أجل تركيز طاقتها، وتوحيد إرادتها، ظاهرة صحّية وطبيعية في كل المجتمعات البشرية. ولذلك نظَّر فلاسفة السياسة والقانون الدستوري لــ”حق التجمُّع” وجعلوه مساويا لحق التفكير، وحق التعبير، وحق التنقل، وغيرها من حقوق سياسية ومدنية لا ينشأ مجتمع طبيعي صحيّ بدونها. فما نظَّر له الكواكبي، وطبَّقه حسن البنا من تأسيس تنظيم عريض، يحمل رسالة الإصلاح الاجتماعي والسياسي، فكرة سديدة ومبدعة، وتطوّر طبيعي في حياة المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة. ويستحق كل من الكواكبي والبنّا الاعتراف لهما بالجميل في هذا السبيل، فقد نقلا الفكرة الإصلاحية من الجدل الأكاديمي إلى خضم الحياة النابضة.
• ثانيا: كثيرا ما سار الجدل بشأن تنظيم (الإخوان) في مسارات متعرجة، وامتزجت فيه الغيرة النزيهة على الفكرة الإصلاحية والنهضة الإسلامية، بالمآرب غير النزيهة للأنظمة الاستبدادية المعارِضة لنمو أيِّ إرادة جماعة للأمة، تكون مناعة لها ضد الاستبداد. ودأْبُ المستبدين في كل عصر هو السعي إلى منع أي تجسّد للإرادة الجماعية للأمة، وتمزيق المجتمع إلى شِيع متناحرة تسهيلا للتحكم والبغي والقهر، وهذا منطق فرعوني قديم “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا”، فالحملة الفكرية والعملية على تنظيم (الإخوان) والسعي إلى استئصاله جزء من هذا المنطق الفرعوني القديم المتجدد، وغايته هدم الإرادة الجماعية القادرة على منازلة الاستبداد، وتحويل المجتمع إلى ذرات متناثرة لا يربط بينها رابط، ويسهل ترويضها وتطويعها. أما احتجاج المستبدين بسرِّية التنظيم فهي حجة داحضة، لأن الاستبداد هو الذي يدفع القوى الاجتماعية إلى العمل السرّي، ولو كانت حرية العمل السياسي متاحة في الدول العربية “فوق الأرض” لما احتاج أحد إلى العمل “تحت الأرض”.
• ثالثا: شكلت المنافسة غير النزيهة من طرف النخب العلمانية العربية التي فشلت في التدافع السلمي أمام (الإخوان) وغيرهم من القوى السياسية الإسلامية، دافعا مهما من دوافع الدعوة إلى حل تنظيم (الإخوان)، ولا يمكن اعتبار هذه الدعوات محكومة بدافع الخير العام، أو الحرص على حركة التغيير والثورات العربية. ولو كانت القوى العلمانية نزيهة في هذا المضمار لرضيتْ بالتدافع السلمي في فضاء مفتوح يسَع الجميع، ويضمن حرية التجمع والتنظيم الحزبي والنقابي وغيره للجميع، مع الاحتكام للشعوب في اختيار قيمها السياسية ومن يسوسها.
• رابعا: من الضروري التمييز بين فكرة التنظيم -من حيث المبدأ- وهي فكرة لا غبار عليها، بل هي واجب أخلاقي واجتماعي، وبين تجربة تنظيم بعينه في بلد بعينه. وفي هذا السياق كنتُ -وما زلتُ- من أشد الناقدين لتنظيم (الإخوان) في مصر، رغم تأييدي العميق للفكرة الإصلاحية التي صاغها حسن البنا، وإيماني العميق بأن تلك الفكرة العظيمة تحتاج إلى إطار تنظيمي يحملها ويحميها. وقد فصَّلتُ مآخذي على تنظيم الإخوان في مقالي (ملامح المأزق القيادي لدى الإخوان المسلمين) الصادر على موقع (الجزيرة نت) منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما. ويمكن الرجوع إلى المقال، وإلى كتابي (الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الاستراتيجي والتنظيمي) للاطلاع على تفاصيل تلك المآخذ.
• خامسا: إن أهم المآخذ على تنظيم (الإخوان) في مصر هي: الإخلال بمبدأ الشرعية القيادية منذ البدء، والجمود القيادي بعد ذلك، وضعْف المرونة الداخلية، والتصلب في الهياكل والإجراءات، وإعطاء السبْق الزمني رجحاناً على الكفاءة، مع إهمال معايير الأمانة والقوة التي جعلها الإسلام أساس الجدارة القيادية، والإفراط في الهرَمية والمركزية رغم أن التنظيمات الانسيابية أفضل وأبقى. وقد سلِمت العديد من الحركات الإسلامية من هذه الأدواء خارج مصر، رغم أنها تنتسب مع (إخوان) مصر إلى المدرسة الفكرية والسياسية ذاتها. وتستمد الكثير من زادها الفكري من النبع المصري ذاته.
وبالنظر إلى هذه الملاحظات، فإن أزمة تنظيم (إخوان) مصر المزمنة لا يصلح علاجها بمجرد الدعوة إلى حل التنظيم، فذلك عونٌ للمستبد على سحْق أهم القوى الاجتماعية المصرية، وهدمٌ للإرادة الجماعية أمام سطوة الاستبداد العسكري. وإنما يكون علاج تلك الأزمة التنظيمية بمزيد من الإحكام التنظيمي، والبراعة في تطويع الأشكال التنظيمية للقيم الإسلامية والمبادئ الإصلاحية التي دعا إليها حسن البنا، بدلا من الاستئسار للهياكل التنظيمية والمصطلحات التي اعتمدها البنّا في مطلع القرن العشرين، يوم كانت الثقافة السياسية والإدارية ضعيفة جدا في مصر وفي جميع المجتمعات العربية والإسلامية.
وربما يكون من الأفضل في المستقبل أن يكون للإخوان -كمدرسة فكرية عريضة- أكثر من تنظيم، وأكثر من حزب، وأكثر من جمعية. وأن يراعوا التخصصات والسياقات القانونية والسياسية في البناء التنظيمي. فما يصلح لحزب سياسي -قانونيا وسياسيا- لا يصلح لجمعية خيرية، ولا لهيئة دعوية. فمنطق السياسية هو المغالبة، ومنطق الدعوة هو الاكتساب، ومنطق العمل الخيري هو الإحسان. ويستطيع تيار اجتماعي عريض -مثل الإخوان- أن يؤدي كل هذه الوظائف وأكثر على أحسن وجه، لكن بشرط عدم الخلط بين طبيعة هذه الوظائف الاجتماعية، ومنطقها الأخلاقي، ورسالتها الاجتماعية.