الممارسة السياسية والمسار الثوري
ناجي خويلدي
الممارسة السياسية هي فعل في الزمان والمكان، أي أنها تتأطر ضمن سياق تاريخي محكوم بمحددات الواقع الطبيعي والاجتماعي. وتختلف نتائج هذه الممارسة أو الانعكاسات المنجزة عنها، ويبرز هذا الاختلاف في ردود الأفعال النفسية والفكرية والمادية من المجتمع الذي يمثل في نفس الوقت مصدر ممارسة (المجتمع سياسي)، وموضوعها (المجتمع بصفة عامة كمجال للفعل السياسي) ومرجعها (المقيم). وتستمد هذه الممارسة شرعيتها من مصادر متنوعة تنوع أشكال التنظم التي عرفتها البشرية عبر صيرورتها التاريخية في كل الأزمان والأماكن. وتبقى الممارسة السياسية التي تستمد شرعيتها من الأغلبية في المجتمع عبر آلية الديمقراطية، في مختلف أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، هي الأقرب إلى التحول إلى فعل يتأسس على مركزة الإنسان ضمنه وبدفعه إلى اكتشاف ذاته المبدعة والخلاقة.
وفي مسار ثورة الحرية والكرامة، وبفعل عوامل ذاتية وموضوعية عديدة، لم تتمكن النخب السياسية وحتى الثقافية من صياغة إستراتيجية ورؤية متكاملة في طريقة التعامل مع الحقائق التي كشفتها وتكشفها الثورة على مدى السبع سنوات الماضية، وهي مدة قصيرة في عمر الثورات عامة، لكنها هامة على مستوى المنجز الثوري من الدستور إلى الانتخابات، والى ما أتاحته من إمكانات هائلة للتعبير والانجاز رغم منغصات الثورة المضادة المحلية والإقليمية والدولية. لقد بينت الثورة على أن مجتمعنا يحتضن الكثير من التعبيرات السياسية والثقافية والاجتماعية والتاريخية، التي طالما حاولت منظومة الاستبداد والفساد وأدها ومنعها من التعبير عن وجودها والمساهمة في بناء الدولة والمجتمع. لكن هذا المنع وهذا القمع حمل في طياتهما بذور فناء الاستبداد والفساد، لوقوف تلك التعبيرات في وجهه ولتتوج ذلك الوقوف بثورة الحرية والكرامة.
وقد مثلت هذه الثورة انفجارا عنيفا وخطيرا إذ ألقت بمختلف تلك التعبيرات في ساحة صراع مفتوح من أجل قيادة المسار الثوري. فكشفت تلك التعبيرات عن وجودها في شكل أحزاب سياسية وجمعيات، والظاهر في إطار الحراك السياسي الذي نعيش، أصبحت استحقاقات الثورة مجال استثمار سياسي من قبل الأحزاب والمنظمات المفترض أنها محسوبة على الثورة، وهو ما سمح بإعادة إنتاج تمظهرات لمنظومة الاستبداد والفساد، الأمر الذي يعكس غياب ذلك التصور أو الرؤية أو الإستراتيجية المتكاملة في طريقة التعامل مع الواقع المعيش. هذا الواقع الذي من المفترض أيضا أن يكون هو المنطلق والمرجع في التجاذب بين تلك الأحزاب والمنظمات من أجل تطويره وخدمته للقطع مع مخلفات الاستبداد المدمرة على كل المستويات، ويكون ذلك ببناء إستراتيجية متأسسة على التفاعل الايجابي فيما بينها، ملبية لتطلعات المواطن الفعلية في حياة كريمة، باعتباره المصدر الوحيد للشرعية، و على اعتبار أن الثورة قامت بإعادة نشر السياسة.
وهي إستراتيجية تواصل تعمل على توضيح الشروط الملائمة للاتصال والتفاعل بين تلك المكونات والتي من أسسها الوضوح والصدق والجدية، بما هي مبادئ مشتركة بين الناس جميعا على اختلاف إيديولوجياتهم وانتماءاتهم الحزبية. وهي التي ستؤدي إلى حالة من التفاهم الحاصلة على قدر كبير من الاعتراف بمتطلبات الواقع والتحديات الكبرى التي تواجهها الثورة، وهذا الاعتراف يتطلب بدوره وعيا وإدراكا كبيرين بما يهم الناس -المواطنون- في أدق تفاصيله بما هو آني وعلى مدى متوسط واستراتيجي، والابتعاد عن التناحر الإيديولوجي المجرد، والتقزيم المتبادل، والممارسة السياسية المبنية على المواقف بالضد، الذي حول الأحزاب السياسية سواء الحاكمة أو المعارضة الى “كنتونات” معزولة عن الواقع، تعمل كل واحدة منها على تحصين نفسها ولمصلحتها الذاتية واثبات مشروعيتها وتحسين صورتها المشوهة من طرف الآخر المشترك معه في الثورة وفي العيش وفي السعي إلى إتمام استحقاقات الثورة، فكم من مشاريع قوانين ومشاريع انجازات مادية أجهضت أو عطلت أو أجلت بسبب هذا التضاد الإيديولوجي؟، ولعل أخطرها ملف التعليم بكل مستوياته. وكم من مصلحة إدارية لمواطنين عطلت بسبب التمييز على أساس اللون الإيديولوجي أو الحزبي؟. ولم تستفد من ذلك إلا الثورة المضادة بمكوناتها المحلية والإقليمية والدولية والتي وجدت الكثير من الفجوات للمناورة وحتى المساومة.
إن ما يجب التأسيس له اليوم، ونحن مقبلون على انتخابات بلدية تؤسس لحكم محلي يعيد توزيع السلطة، هو تحالف مفتوح يستطيع أن يستوعب ويتجاوز التناقضات الإيديولوجية، في شكل توافقات عقلانية، مبنية على ما ينفع الناس، وتتمظهر في ممارسة سياسية خطابا وموقفا، تدعم نشر السياسة وجعل مسؤولية المواطن أخطر مسؤولية سياسية باعتباره المصدر الوحيد للشرعية وهو المسير والمراقب.