نور الدين الغيلوفي
تمهيد لا بدّ منه:
كم كان الروائي الكبير عبد الرحمن منيف على صواب حين صدّر روايته الرائعة (الآن… هنا) بذينك الأثرين المتعلّقين بالشرطة.. فقد نقل في صدر روايته حديثا مرويا عن ابن عبّاس جاء فيه أنّ النبيّ (ص) قال: “اُدخلت الجنّة فرأيت فيها ذئبا، فقلتُ: أذئبٌ في الجنّة؟ فقال: أكلتُ ابنَ شرطيّ.. فقال ابن عبّاس: هذا وإنّما أكلَ ابنَه فلو أكله هو رُفع في عليّين”.
ثمّ نقل أثرا آخر مرويّا عن سفيان الثوري جاء فيه: “إذا رأيتم شرطيا نائما عن صلاة فلا توقظوه لها فإنّه يقوم يؤذي الناس”.
وكانت أوّل جملة بدأت بها الرواية الذائعة “حين بدأ موتي وشيكا.. أطلقوا سراحي!”
في معنى التعذيب:
يُعَرَّف التعذيب بكونه “مصطلحا عاما يُستعمل لوصف أي عمل يُنزل آلامًا جسدية أو نفسية بإنسان ما وبصورة متعمَّدة ومنظَّمة، ويُعتَمَدُ وسيلة لاستخراج معلومات أو للحصول على اعترافات أو لغرض التخويف والترهيب أو شكلا من أشكال العقوبة أو وسيلة للسيطرة على مجموعة معينة تشكل خطرا على المجتمع..
ويعتبر التعذيب بكافة أنواعه منافيًا لمبادئ حقوق الإنسان العامة تلك التي أُعلن عنها منذ 10 ديسمبر 1948 ووقّعت عليها دول عديدة سواء في معاهدة جنيف الثالثة الصادرة في 12 أغسطس 1949 المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب أو في معاهدة جنيف الرابعة الصادرة في 1949 المتعلقة بحماية المدنيين أثناء الحرب”.
في أن التعذيب فعل توحّش:
التعذيب فعل ماضٍ ينزل بالبشر، عند ممارسته بينهم، بمقتضى إرادتهم، إرضاءً لغرائزهم العدوانيّة، إلى منزلة دون الحيوان.. ذلك أنّ الوحوش في البرية لا تأتي من الأفعال ضدّ بعضها ما يأتيه بنو البشر بمجامع ما لديهم من قصد ورصد.. الوحوش تتقاتل لأجل الحصول على الطعام أو لحماية إناثها وأولادها ونظائرها من الأخطار، حتّى إذا بلغت غاياتها وحقّقت مبتغياتها توقّفت عن التقاتل وهدأت شراستها.. ولم ير البشر منذ أقدم العصور حيوانا يعذّب حيوانا آخر لأجل الاستمتاع والتسلية.. أو لأيّ أجْل آخر.. وحده الإنسان يمضي بإرادته إلى حتفه وهو يسعى إلى حتف غيره.. فهل هو غباء العقل أم عقل الغباء؟ أم هو الإنسان إذا استبدّت به الغريزة فقد ما به يكون الإنسان وسقط في أسفل المراتب سقوطا حرًّا؟
ولمّا أدركت المجتمعات التي بلغت منزلة البشر قبح فعل التعذيب وخطورته على منزلتها حرّمته على نفسها وعلى غيرها وعدّته جريمة لا تسقط بالتقادم.. بل اعتربته أبا الجرائم كلّها.. ولا فرق بين من يرتكب جرما يستحق عليه المعاقبة وبين من يمارس التعذيب على ذلك المجرم مهما كان هدفه من ذلك ولو أنّ ذلك المجرم استعصم وأضرب عن الكلام وامتنع عن الاعتراف بجريرته.. فبين الطرفين تواطؤ على نشر الجريمة وإشاعة الرعب.. ولا فرق بين إرهابيّ يروّع الناس ويفتك بأمنهم وبين شرطيّ يمارس بطولته عليه بالتعذيب ويجرّب فيه فحولة له فقدها تحت الشمس فهو يفتّش عنها داخل الأقبية المسالخ.. كلاهما شريكان في الإرهاب..
ثورتنا كانت إنسانية ضدّ التوحّش:
كنّا نظنّ أنّ تلك الوحوش التي استعملها نظام الاستبداد قد استوعبت درس الثورة جيدا وفتحت لحياتها صفحة جديدة تقطع فيها مع ممارساتها الرعناء عندما كانت تستعمل أسلحة الدولة لإرهاب المواطنين وإرعابهم، طاعة لمن سخّرها لقمع الناس وإفساد حياتهم عليهم، تحت عنوان حماية الدولة وحفظ النظام.. وكان الدرس الأكبر هو عفو المعذَّبين عمّن ولغوا في دمائهم قبل الثورة وانتهكوا أعراضهم واستولوا على أغراضهم.. لقد كان الشعب كريما عندما لم ينس الفضل في تعاطيه مع مجرمين استعملتهم منظومة الاستبداد لإنجاز مهامّها القذرة وولّتهم على مسالخ حفرتها لأجلهم عند الأقبية ليمارسوا فيها إجرامهم بعيدا عن ضوء الشمس وحركة الحياة.. ولكننا نسينا أو تناسينا أنّ أولئك لا يصلح لهم أمر ويستحيل إدماجهم في المنتظَم الجديد الذي يمثّل نقيضا لهم، لأنّ من أدمن الجريمة يعسر عليه تركها ومن اعتاد صناعة الموت يصعب عليه أن يزرع حياة..
لم يدم فزع تلك الحيوانات لمّا عصفت بها الثورة طويلا، ولما كان الشعب لا يريد الانتقام ولم تكن هي قادرة على فهمه فقد عادت إلى ممارسة عنفها العفن على الناس تحت ذريعة مقاومة الإرهاب وقد علمت أنّها نجت بأعجوبة من انتقام محقَّق كان سيكون لولا رفعة الناس وتعاليهم على الجراح..
لا شيء يبرّر التعذيب:
هب أنّ إرهابيّا مجرما وقع بين يديك.. فأيّ منطق يسمح لك بأن تعتديَ عليه بالتعذيب؟ فهل يسرّك أن تتساوى معه في معادلة الإجرام؟ وهل ترضى بأن يجرّك إلى مربّعه الإجرامي؟
الثورة ولدت الإنسان فينا.. ويفترض أن نكون قد عبرنا المحنة التي أوقعَنَا فيها نظام الهالكين وقطعْنا مع حقبة التوحّش التي كان الجلّادون أبطالًا بها..
إنّ شرطيا يمارس التعذيب ضدّ مواطن إن هو إلّا كائن مريض يحتاج العناية المركّزة والمعالجة، ولا يستحق، مطلقا، أن يُستأمَن على الأنفس والأرزاق.. فهؤلاء قتلة ولصوص.. وكلّ من يعذّب كائنا حيّا، فضلا عن إنسان، إن هو إلّا مجرم وجب حماية البلاد منه والعباد.
إنّ التعذيب سلوك وحشي ينمّ عن عجز وجهل.. فإذا كانت مهمّتك أن تحمل المجرم على الاعتراف بجرمه فعليك أن تستند إلى أدوات إنسانية تتجاوز العنف المادّي الذي تحتكم إليه الحيوانات لحسم معاركها.. أمّا حين تعوزك الحيلة ويتبخّر عقلك وينعقد لسانك إلّا من رفث الكلام وتُشَلّ قدرتك فتستنجد بالعصا وأخواتها لتمارس فاحش عدوانيتك ولتجرّب مهدور فحولتك فأنت بذلك إنّما تترك منزلتك البشرية لتنحدر إلى منزلة البهائم التي لا عقل لديها ولا لسان تعبّر به عن قصدها.. وقتها يتغلّب عليك ذاك الأعزل المغلوب ويضحك منك عقلك المسلوب وتعلنك السماء…
عن التعذيب والمُعَذِّبين في أرض المعَذَّبين…

نور الدين الغيلوفي