كثيراً ما نستغرب الطريقة الذي ينظر بها الغرب إلى المسلمين عموماً والعرب خصوصا، وكثيراً ما نستغرب كذلك مناعة هذه النظرة وعدم قابليتها للتغيير، لذلك في كثير من الأحيان، اختصاراً للوقت وفتورا عن التحليل، نرجعها إلى «الإعلام» المعاصر وجهوده في إظهارنا بمظهر غير لائق نتيجة لخلافات سياسيةٍ ناتجةٍ عن قضايا معاصرة كثيرة من أبرزها قضية العصر: قضية فلسطين. لكن قضية فلسطين في الحقيقة نتيجة وليست سبباً. فقضية فلسطين (ومثلها قضية الاستعمار) سبقها الكثير من الكتابات التي تَشِي بوجود هذه النظرة منذ عهد بعيد.
فما الذي يجعل الإنسان الغربي بالطبيعة مستعداً لأن يظن كل الظنون بالإنسان المسلم أو العربي؟ وما الذي يجعل هذه النظرة هي الأصل وغيرها الشاذ؟
كوَّنَ الغربيون في وقت مبكر من تاريخنا صورة ذهنية ثابتة للإنسان المسلم (تاريخيا، هم لا يستخدمون كلمة «مسلم»، وإنما «الإسماعليي» أو «الوثني» أو «المحمدي»)، وتتجلى هذه الصورة في كثير من أدبياتهم التي كتبت في وقت مبكر من ظهور الإسلام من طرف بعض الرحالة والقسس والحجاج الذين كانوا يطوفون بلاد الإسلام لزيارة فلسطين. والغريب أنك عندما تقرأ ما كتبوه في تلك الفترة عن المسلمين ستندهش، لكأنك تقرأ لكاتب غربي معاصر نتيجة تشابه المصطلحات المستخدمة في وصف المسلمين. فالنظرة الغربية إلينا قديمة ضاربة في أعماق التاريخ لم تتغير رغم أنهم تغيروا، بل ظلت تتطور من سيء إلى أسوأ حتى وصلت ذروتها في أيام الحروب الصليبية والاحتكاك الذي وقع في شبه الجزيرة الإبيرية والذي انتهى بطرد المسلمين منها.
بعد أن تم طرد المسلمين من أوربا بفترة ليست بالطويلة بدأ عصر النهضة والانفتاح العلمي الذي ساهم في قلب المفاهيم في العالم الغربي رأسا على عقب. ولكن الأغرب هو أن عصر النهضة هذا عندما جاء غيَّر كل شيء، وقلب كل الموازين، إلا النظرة والصورة النموذجية للإسلام والمسلمين فإنها لم تتغير، أو كما تقول مؤلفة كتاب: (Muhammad in Europe) (محمد في أوروبا) تقول: «الملاحظ أن عصر التنوير والعقل فشل في تغيير هذه النظرة» (ص 4). وذلك ما يدعونا إلى التساؤل أولاً عن خصائص هذه النظرة وماهيتها ويدعونا بعد إلى استكشاف أسبابها.
نستطيع أن نوجز صفات الإنسان المسلم أو العربي في الذهنية الغربية في الخصائص التالية: هم دائماً يؤمنون أن الإنسان المسلم لا بد أن يكون:
1. متوحشاً
2. لا يحب الناس ولا يحبونه
3. عنيفاً بطبعه
4. غير متحضر
هذه الصفات أو المصطلحات تتراءى للقارئ البسيط وكأنها مفردات جديدة من قاموس القرنين الماضيين ُتوَصف بها الشعوب غير المتقدمة في العالم الثالث. من طرف العالم «المتحضر» بعد عصر النهضة. لكن القضية لا تبدو كذلك، فهذه النظرة وتلك الأوصاف قديمة متجذرة في النفس الغربية المسحية!
لعل السر الذي يكشف هذا اللغز ويفسر هذه النظرة العصية على التغيير يكمن في وجود نصوص من التوراة تتحدث عن إسماعيل وتصفه بهذه الأوصاف (باعتبار أن العرب هم «الإسماعليون»). ففي سفر التكوين (17-21) يتحدث الرب: «وسيكون إسماعيل إنساناً وحشياً، يعادي الجميع والجميع يعادونه، ويعيش في خلاف مع إخوته» (سفر التكوين 16-13). فالنبوءة التوراتية إذاً تفترض أن يكون إسماعيل وبنوه متوحشين وغير متحضرين، يعادون الجميع والجميع يعاديهم. لذلك لا يجد الإنسان الغربي صعوبة في الميل إلى أي متحدث يصف المسلمين بالتطرف ومعاداة الحضارة، بل إن هذه المصطلحات ستجد طريقها بسهولة ويسر مداعبة ذهنيته عن طريق لغة توراتية مفهومة، وسيجد الصعوبة كل الصعوبة في استساغة العكس. فإذا قام اليهود مثلا يشكون الإرهاب العربي الإسلامي يجدون التربة ممهدة أمامهم والتهم جاهزة. أو كما يقول الكاتب البريطاني ريتشارد افلتشرفي كتابه: (The Cross and the Crescent) (الصليب والهلال) متحدثاً عن النظرة المسيحية للعرب: «كان كل شيء هناك! إنهم (يعني العرب) كما وصفهم الكتاب المقدس» (ص 10).
فما دام الكتاب المقدس تحدث عن هؤلاء «الإسماعليين» ووصفهم بهذه الأوصاف وتنبأ كذلك بأنهم «سيُعادون الجميع» فالمشكلة إذاً فيهم وليست فينا! أو حسب العبارة المفضلة الآن لدى كثير من المسؤلين والإعلاميين في الغرب: “They hate us for who we are!”. «إنهم يكرهوننا لذاتنا».
ولكن الأغرب في المسألة هو وجود نبوءات توراتية في نفس السفر من الكتاب المقدس تتحدث عن إسماعيل حديثاً إيجابياً. فعلى سبيل المثال يقول الرب في التوراة متحدثا عن إسماعيل: «سأباركه وأجعله مثمّراً وأكثّره جداً… ويصبح أمة عظيمة» (التكوين 17-20). ويخاطب الرب كذلك إبراهيم ويبشره أنه سيبارك نسله من بعده. ومن الطبيعي أن إسماعيل ابن لإبراهيم وأن هذه النبوءة تنطبق على ذريته. لكن من أجل إعلاء العنصر اليهودي فقد وضعت نصوص أخرى تقيد «البنوة» لإبراهيم و«تخصصها» وُتخرج إسماعيل منها، إذ أن الله عندما يقول لإبراهيم “«ذريتك» فإنما يعني ذرية إسحاق. ففي سفر التكوين (18- 22) يقول الرب مخاطبا إبراهيم: «لكن عهدي أعقده مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت من العام القادم». وفي موضع آخر نجد: (التكوين21-13) «لا تنزعج بشأن الولد وبشأن جاريتك.(يعني إسماعيل وأمه) اعمل كما تقول سارة، لأنه عن طريق إسحاق يكون نسلك» (التكوين 18-19) فعبارة «النسل» احتكرها إسحاق وبنوه، وباحتكارهم لها فقد احتكرو كذلك «مباركة أهل الأرض بهم». إذ نجد في سفر التكوين أن الرب يقول: (19-18) «أنا لا أخفي عن إبراهيم ما سأفعله، فإنه سيكون أمة عظيمة وقوية، وبواسطته أبارك كل شعوب الأرض».
فإذا كان هذا هو قول الرب فإن المسلمين أو الإسماعليين لا يستحقون البنوة لإبراهيم. صحيح أنهم أباءه بيولوجياً، ولكنهم ليسوا أبناءه روحيا ولا معنوياً نتيجة للشر الذي فيهم والناتج عن بنوتهم لإسماعيل. فهذه النظرة وهذه النصوص التوراتية تفسر الكثير من العنصرية التي يعامل الغرب بها المسلمين، فهم دائماً في موقع «المستثنى». وهم تاريخياً وتوراتياً مستثنون من بنوة أبيهم لما هو كامن فيهم، ونتيجة لذلك نجدهم في هذا العصر مستثنون كذلك من القوانين الدولية والاتفاقيات لأنهم إرهابيون وقتلة و«أعداء للجميع»، لذلك لا تنطبق عليهم اتفاقيات حقوق الإنسان في كثير من الأحيان. أو كما يوضح ريتشارد فلاتشر: «من الممكن أن يوصف العرب بناء على هذه النظرة على أنهم أعداء للبشر بسبب نسبهم» (الصليب والهلال ص 10).
هذه النصوص وتلك النبوءات في رأيي سبب من أهم أسباب النظرة الغربية إلينا إن لم تكن السبب الرئيس أو الوحيد.
لكن السؤال المطروح هو: ما هي مسؤليتنا تجاه هذه المعلومات الخاطئة؟ وكيف نقدم أنفسنا بطريقة تدحض هذه الادعاءات؟ مسؤليتنا كعرب ومسلمين تتمثل في نقطتين:
الأولى: فهم تراث الإنسان الغربي، خصوصاً تاريخه قبل النهضة وعدم اختزاله، والنظر إلى العبء التاريخي الذي ينوء به كاهله، بداية بالنصوص التوراتية «الموضوعة» والمفسرة بطريق مُعوجة، مروراً بتقليص رقعة الدولة البزنطية على أيدي المسلمين و الحروبِ الصليبية فالغزواتِ التركية داخل قلب أوروبا، وفوق هذا وذاك التراث المسيحي المكتوب في هذ الفترة الطويلة الممتدة منذ ظهور الإسلام وحتى اليوم وتأثيره على طريقة نظرة القوم إلينا، مروراً بالقضية الفلسطينة التي ساهمنا بطريقة أو بأخرى من خلالها على إثبات بعض هذه النظريات.
الثانية: إثبات زور هذه «النظرية» وعنصريتها، لا تأكيدها وتقديم الأدلة الميدانية عليها وتعميقها عن طريق تقديم القضايا العادلة بواسطة محامين فاشلين. علينا أن نثبت للعالم أننا أبناء لإبراهيم جديرون ببنوته، بل إننا ورثته الشرعيون الوحيدون.
وبعد، فقد آن الأوان أن نلغي فكرة «الإنسان المحايد» التي دائما ما ننظر بها إلى الأكاديمي الغربي باعتباره إنساناً قد تخلص من ماضيه وتجرد للحقيقة المجردة دون أي يكون للهوية أو التاريخ أو الدين عليه من سبيل.
كاتب أديب وصحفي موريتاني