مقام القضاء في دولة “النقابات الأمنية” ؟!
أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
من يحرس الحراس؟! أمنيون (من المفروض حماتها) يطوقون المحكمة ويعبثون بحرمتها.. برمزيتها أمام الناس!
ما جد أمس أمام المحكمة الإبتدائية ببن عروس -تحت مظلة النقابات الأمنية – ليست أول حادثة ولا مجرد واقعة !.
هل تحولت “القوات النظامية” إلى “مليشيات مسلحة” ؟!: تجمهر وتطويق واستعمال السيارات الوظيفية وتهديد واقتحام لبهو المحكمة ورفع السلاح واعتداء على محام وعلامات انتصار… الخ
ماذا يجري؟! وماذا يريدون؟! عمليات “بوليسية” شبه عسكرية لاستعراض القوة وممارسة الضغط بهدف “تخليص” عدد من الأمنيين يمثلون -كباقي المواطنين- أمام قاضي التحقيق.
إحدى النقابات الأمنية (نقابة موظفي الإدارة العامة للأمن العمومي) تصدر بيانا “مخجلا !” في 25 فيفري الجاري يتعلق بإيقاف ثلاثة أمنيين وإحالة إثنين آخرين بحالة تقديم يتبعون فرقة الشرطة العدلية بحمام الأنف من أجل شبهة التعنيف (البعض يشير إلى تعذيب).
البيان يصف قرار الإيقاف بالمتسرع ! ويتهجم في صيغة “مقرفة” على “جحافل من أشباه الحقوقيين والمحامين الذين عرفوا سابقا بفتح دكاكينهم لمساندة خفافيش الظلام والإسترزاق من تجارة الإرهاب !” (كذا).
وفوق ذلك تدعو تلك النقابة في صيغة حربية جميع الأمنيين إلى الإستنفار والحضور بكثافة لتطويق المحكمة الإبتدائية ببن عروس.
وإضافة لذلك دعت كافة الإطارات والأعوان إلى مقاطعة تأمين الجلسات بالمحكمة الإبتدائية ببن عروس في تاريخ التجمهر!. وفي صيغة أكثر تحديا دعت “جميع الأمنيين إلى عدم مغادرة أسوار قصر العدالة إلى حين الإفراج على زملائهم المتهمين وإلى عدم المثول مستقبلا أمام الجهات القضائية بخصوص القضايا المرتبطة بممارستهم لمهامهم الأمنية”!…الخ
ولا ادري أين يوجد وقتذاك وزير الداخلية ووزير العدل… وأين ضاعت هيبة الدولة ؟!
أعضاء المجلس الأعلى للقضاء يظهرون في حالة عجز ! ويتحولون (على عجل) في نفس اليوم إلى المحكمة “بناء على بلوغهم أمر تجمهر مجموعات من الأمنيين على خلفية تتبعات قضائية موجهة ضد زملائهم” ويعاينون “انتهاك حرمة المحكمة من أمنيين حاملين للسلاح والذين تنقلوا إلى مقر المحكمة بمختلف الوسائل الموضوعة على ذمتهم من طرف الدولة”.
وفي الأخير يدعون القضاة (المطوقين من القوات والنقابات الامنية !) إلى التمسك باستقلاليتهم واتخاذ قراراتهم بمعزل عن مجموعات الضغط والنفوذ” (بيان المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 26 فيفري 2018) دون أية إدانة صريحة للنقابات الأمنية أو وزير الداخلية أو الإشارة إلى مسؤولية وزير العدل أو اتخاذ إجراءات عملية لرفع الحصار على المحكمة !.
لكن ماذا كانت التداعيات ولماذا ظهر الأمنيون والنقابيون وهم يرفعون شارة النصر!؟
تقرير الطبيب الشرعي أثبت “تعرض المشتكي للعنف الذي نجم عنه وجود 22 كدمة في جسده !” وقاضي التحقيق المتعهد بالقضية (وليعذرني زميلي!) يقرر في ليلة ليلاء وبعد سماع 5 أمنيين والقيام بالإجراءات اللازمة “إبقاءهم بحالة سراح وعرضهم على القيس” بعد أن كان 3 منهم بحالة احتفاظ و2 بحالة تقديم (الناطق الرسمي باسم المحكمة الإبتدائية ببن عروس في 27 فيفري الجاري في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء)
وبعيدا عن الحيثيات -يبقى لنا (ولكم) التعليق عن دلالات تلك الوقائع التي تأخذ حجم القضية الوطنية وترتبط بمصير الحريات في هذه البلاد، من ذلك :
1. ان واقعة بن عروس (كالوقائع السابقة التي جدت بسوسة وقفصة وزغوان وغيرها) تؤكد الحضور الراسخ في ذهنية بعض الأمنيين لدولة البوليس التي لم تغادر مخيلتهم إضافة إلى استمرار التنازع بين سلطة القاضي ووظيفة الأمني وتجاوز الأمنيين لحدود سلطتهم في تعاملهم مع المحامين ومساعدي القضاء وعموم الناس.
وليس بعيدا عن الذاكرة حادثة جدت بتاريخ 30 اوت 2015 في دائرة المحكمة الإبتدائية بزغوان، اعتدى فيها أحد أعوان شرطة المرور على أحد القضاة. وقد كان خطاب الأمني في تلك الحادثة صادما ولا يكاد يصدق وهو يتوجه للقاضي بالقول: “ولا كان أنت قاضي وأنا رئيس مركز وباش نوقفك” واحنا والي مرمدناه خلي قاضي” وذلك في إشارة إلى والي تطاوين السابق وما نسب له من أنه اعتذر لأحد أعوان الأمن (أحمد الرحموني مقام القاضي في دولة البوليس: موقع نواة – 3 سبتمبر 2015).
2. تحصن عدد من الأمنيين في علاقاتهم العامة أو الوظيفية بالنقابات الأمنية والإستناد إلى موقعها لتجاوز القانون تحت غطاء حرية العمل النقابي وحماية الأمني.
وتبدو حادثة المحكمة الإبتدائية ببن عروس أبرز مثال على تلك الممارسات التي تجسمت في دعوات صادرة عن نقابة موظفي الإدارة العامة للأمن العمومي بقصد محاصرة المحكمة والضغط على القضاة والتفصي من المسؤوليات الوظيفية.
ويذكر في هذا السياق أن عون المرور في حادثة زغوان قد توجه للقاضي بالقول: “احنا عندنا النقابات متاعنا يتمس بوليس البلاد نبركوها !” (المرجع السابق: مقام القاضي في دولة البوليس).
3. شعور طاغ لدى عدد كبير من القضاة في ضوء تلك الإعتداءات بأن الحصانة الوظيفية التي أقرها الدستور والضمانات المقررة للسلطة القضائية لا تؤدي إلى توفير الحماية اللازمة للقضاة.
4. ضرورة التأكيد على ما يسمى “الرقابة الديمقراطية على المؤسسة الأمنية” وذلك بقصد التباعد عن عقلية “الدولة داخل الدولة” وحتى لا تستعمل مصالح الأمن الداخلي بصفة تحكمية لبلوغ أهداف غير مشروعة. فمن الواجب ترسيخ مبدأ المحاسبة وضرورة تحمل المسؤولية القانونية عن الأفعال المقترفة.
فهل يمكن أن تمر حادثة بن عروس (مثلما مرت غيرها !) دون محاسبة وأن يسكت في كل مرة وزير الداخلية وبقية المسؤولين ويفلت المذنبون من العقاب ؟!