حسن الصغير
بعد حصة رياضيات صعبة أنهكتنا وأنهكت مدرسنا في الصف الرابع جلس سيدي على كرسيه منهكا ثم نظر إلينا وقال استريحوا قليلا قبل درس الجغرافيا وبدأ يقلب أوراقه ودفاتره غير مهتم بالمحادثات الثنائية والجماعية التي دبت هنا وهناك في مختلف أرجاء الفصل.
وبعد فترة من الزمن ضرب سيدي مجددا بمسطرته الخشبية العريضة على طرف الطاولة القديمة المغطاة بقطعة بلاستيكية ذهبت أغلب ألوانها ولم يبق منها إلا اللون الأبيض المائل للصفرة ثم قال لنبدأ درس الجغرافيا.
بدأت الضحكات والهمسات تخفت شيئا فشيئا حتى تلاشت تماما وأطبق الصمت واستدار الجميع نحو السبورة حيث يقف المعلم متأبطا مسطرته وقد رسم على السبورة صورة بحر وسفينة تتقدم من بعيد.
سكت التلاميذ فسألنا المعلم هل تعلمون ما هو شكل الأرض؟ قدم بعض التلاميذ إجابات مختلفة ولم يهتم الكثير عندها صدح المعلم أمامنا بالمفاجأة المرعبة “لقد ثبت علميا أن الأرض مكورة أي كروية الشكل مثل الكرة” فانقسم التلاميذ بين مشدوه وغير مصدق ولا مبال وكنت طبعا من غير المصدقين وخرجت مني ضحكة مكتومة فقد تصورت أن حكاية كروية الأرض نكتة أراد سيدي أن يضحكنا بها لنعود بعدها للدرس.
لكن لم تبد على سيدي أي علامات هزل فقد التفت إلى السبورة وبدأ يشرح لنا من خلال صورة البحر والسفينة كيف ان اول ما يظهر من السفينة القادمة من عرض البحر هو أعلى نقطة في شراعها ثم تنزل الرؤية شيئا فشيئا حتى تظهر السفينة بأكملها وهو ما يعني أن الأرض كروية.
ولا أخفيكم أن المثال لم يقنعني اولا لاني لم أر بحرا أو سفينة في حياتي وثانيا لأن كل تجاربي السابقة في الحياة كانت على أرض منبسطة ومسطحة ولا أذكر أني حين أذهب مع أمي إلى أخوالي في القرية المجاورة أني أنحدر أو أرتفع كأنني على سطح كرة.
وحتى تكتمل المفاجأة خرج سيدي برهة وعاد حاملا كرة متوسطة الحجم زرقاء اللون وعليها كتابات كثيرة وألوان يبدو انه جلبها من مكتب المدير أو استعارها من فصل الصف السادس ثم وضعها على الطاولة وبدأ يشرح لنا كروية الأرض وكيف أنها بيضاوية الشكل ذات قطبين شمالي وجنوبي وخط استواء في الوسط ومدارين هما الجدي والسرطان.
ولا أخفيكم أني لم أصدق كلمة واحدة مما يقول المعلم ورغم احترامي الشديد لمعلمي فإن ما يقوله أكبر من أن يصدقه عقل.
بعد ذلك انتهت الحصة وخرجنا ولم أبتعد كثيرا في الساحة فقد تعمدت أن أراقب المعلم لعلي أرى منه تصرفا ينبئ بتعرضه لمس من الجنون جعله يفضي إلينا بما قاله عن الأرض وشكلها لكنه وقف بهدوء مع معلمين آخرين وظلوا يتجاذبون أطراف الحديث.
وفي المساء وأنا عائد للمنزل سيطر علي ألف سؤال وسؤال وحين حاولت أن أناقش بعض الزملاء في المسألة لم أجد حماسا أو اهتماما فقررت حل المسألة وحدي.
وقبل الليل رتبت أسئلتي التي سأطرحها على المعلم لأفند نظريته وكانت كالآتي اولا كيف لا يسقط من يعيشون في الجزء الجنوبي من الأرض إذا كانت كروية كما يزعم؟ وكيف تظل مياه المحيطات والبحار في هذا الجزء متماسكة ولا تندلق في الفضاء الرحب نحو الأسفل؟ وسؤالي الثاني إذا حفرنا حفرة كبيرة انطلاقا من شرق الأرض حتى نخرج من غربها وتصبح للحفرة فوهتان ثم ألقينا حجرين في الحفرة في نفس الوقت من الجهتين هل ستسقط الأولى وتظل الثانية ثابتة في الفراغ؟ أم ستسقطان معا وكل واحدة تسرع باتجاه الثانية حتى تخرج كل واحدة من الفوهة التي سقطت منها الأخرى؟
وبعد أن نظمت أسئلتي كتبتها في ورقة ثم نمت في انتظار طرحها على سيدي عندما ألتقيه.
لكن عند الصباح وفي طريق الذهاب إلى المدرسة أسررت لبعض رفاقي بأسئلتي الحائرة لكنهم سخروا مني وانحرف النقاش إلى موضوع ثانوي وهو مدى قدرة الإنسان على حفر حفرة تشق باطن الأرض حتى تفتح من الجهتين وتوصل الجدل إلى أن ذلك مستحيل فعلا وهو ما أصابني بالإحباط الشديد وقضى على أسئلتي الثورية في المهد ولم أسلمها للمعلم خشية مزيد السخرية.
ولعلمكم أيها السادة أني عندما كبرت حمدت الله كثيرا لأن المعلم لم يقل لنا يومها أيضا أن الأرض تدور فربما كان ذلك سيؤدي فعلا إلى انقطاعي عن الدراسة مخافة الجنون!!!