غير قابل للنشر: بيان المجلس أو “اللعب في الوقت الضائع” !
أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
لا أشك لحظة في أن البيان الذي أصدره المجلس الأعلى للقضاء حول أحداث المحكمة الإبتدائية ببن عروس لا يمكن أن ينطلي حتى على الذين أصدروه !
ومثلما تحول أعضاء المجلس على عجل إلى المحكمة المذكورة -على حسب ما قالوا- من الواضح أن البيان نفسه قد كتب على عجل !. الوقائع في دلالتها (أو رمزيتها) أخطر مما تصور المجلس وأفدح مما يحتويه البيان: لا أدري ماذا يقصدون بقولهم “وبعد معاينتهم لانتهاك حرمة المحكمة” فهل كانت “الحرمة” شيئا حتى يعاينوه أو جسما حتى يحرزوه ؟!
وحتى يستفيق المجلس من غيبوبته لابد أن يشرب “دواء الحقيقة” لكي يعترف وينطق بالحقيقة كاملة ! هناك فرق كبير بين تمثيلية القضاة في تشتتهم (وهو ما تفعله هياكلنا الخمسة على أحسن وجه!) وتمثيلية السلطة القضائية (وهو ما يحاول مجلسنا الموقر ان يؤديه!).
هل انتظرنا دهرا ودفعنا من دمائنا حتى يصدر لنا المجلس -دفاعا عن حرمتنا- بيانا بمثل هذا الضعف والقوة المتهاوية ؟!
• أولا. ماذا قال المجلس في الأخير: هو مسؤول عن حسن سير القضاء واستقلاله والمجموعات الأمنية (التي رآها تحمل السلاح!) غير مسؤولة والسلطة التنفيذية هي المسؤولة عن تدهور الوضع الأمني وأن تلك الممارسات (التي لم يذكر منها غير حمل السلاح والتنقل بالسيارات) ضرب لاستقلالية السلطة القضائية وأسس النظام الجمهوري الديمقراطي.
والأهم من ذلك هو دعوته للقضاة (المحاصرين) حتى يتمسكوا باستقلاليتهم واتخاذ قراراتهم بمعزل عن مجموعات الضغظ والنفوذ (هكذا وردت وهي تعني اللوبيات في سياق سياسي!).
وسؤالنا الأكثر بداهة: هل كنا نحتاج إلى مجلس (يعد 45 عضوا) حتى يقول لنا ذلك ؟! وهل قدر الأعضاء الممثلون للسلطة أن تحولهم على عين الأحداث يزن بقدر موقع السلطة القضائية في ذلك النظام الجمهوري الديمقراطي ؟!
وماذا بقي -بعد هذا البيان- لجمعية القضاة ونقابتهم وجمعيات المجتمع المدني حتى تقول؟! هل يفكر المجلس بذهنية الشريك في الدولة وممثل السلطة الثالثة (في مواجهة أعوان الدولة المتمردين) أم بعقلية الناصح والمدافع عن القضاة (المساكين!) في مواجهة السلطة التنفيذية ؟!
• ثانيا. المجلس -الذي تحفظ عن ذكر التجاوزات- لم يسم الأشياء بأسمائها وأبرز فقط وفي صيغة عامة مسؤولية “مجموعات من الأمنيين” فضلا عن مسؤولية السلطة التنفيذية وكيانات أخرى سماها مجموعات الضغط. في حين دعت نقابات بعينها (نقابة موظفي الإدارة العامة للأمن العمومي) في بيانات منشورة إلى الإستنفار والتمرد و”عدم مغادرة أسوار قصر العدالة إلى حين الإفراج عن المتهمين وإلى عدم المثول مستقبلا أمام الجهات القضائية بخصوص القضايا المرتبطة بممارستهم لمهامهم الأمنية”!.
• ثالثا. نلاحظ بدهشة أن المجلس قد أسقط أي اعتبار للتعامل الواقعي مع تلك الأحداث الخطيرة عندما اختزل موقفه في بيان هو أقرب للمواعظ الأخلاقية !. فهل كان من المتاح لممثل السلطة القضائية أن يقتحم دائرة السلطات الأخرى وأن يستدرج -في تحرك فاعل- وزير الداخلية ووزير العدل ورئيس الحكومة ورأس الدولة وحتى رئيس البرلمان ؟!
• رابعا. لابد أن الجميع قد لاحظ تشبث المجلس (ربما أراد انتهاز الفرصة!) بمقترحين إثنين رآى من المناسب عرضهما على السلطة التنفيذية في “قلب الأحداث” وهما تعزيز أمن المحاكم وإخضاع هذا الأمن للسلطة المباشرة للمشرفين على إدارة المحاكم”.
فهل يبدو هذا ملائما لدور سريع كان على المجلس أن يؤديه والمحكمة ترزخ تحت حصار مطبق؟!
• خامسا. لا شك أن القضاة وقاضي التحقيق بالذات كانوا في أشد الحاجة إلى حضور المجلس. فهل كان قاضي التحقيق المتعهد بالملف -وهو ينظر في جوف الليل وتحت الحصار الأمني في تلك القضية ويطلق سراح المحتفظ بهم- على وعي بقوة ذلك البيان وحتى بوجود المجلس أصلا ؟!