إلى نقابات الأمن: لأنكم تحتكرون الحقيقة

كمال الشارني
بناء على بيان نقابة الأمن التي دعت إلى محاصرة القضاة في قصر العدالة في بن عروس إحتجاجا على الإحتفاظ بزملاء لهم بشبهة تعذيب متهم فإنه لا يجوز للقضاء أن يفكر خارج منطوق محاضر الأمن.
“قالوا إرهابي ؟ صحيح إرهابي، إعترف ؟ إعترف. فاش قام “محامين متاع إرهاب وحقوق وخفافيش الإرهاب وحوانيت حقوق الإنسان”، إيه ؟ فاش قام أصلا قضاة ومحاكم وكتبة ومصروف وملفات وهرج ومواعيد وجلسات ؟ فاش قام أصلا جهاز قضاء ؟ لكي نقصر عليكم الطريق: “إلي تشكوا فيه إرهاب، عذبوه إلى حد الموت ولا تستشيروا أحدا” لأنه يفترض أننا نثق بكم لأنكم تحتكرون الحقيقة فلا مبرر لجهاز القضاء أصلا، المهم أنتم متأكدون أنه إرهاب، إلى أن تقتلوا الجزء الأجمل من الشعب التونسي بالشبهة، ستبدأون بمن لا تعرفوهم إلى أن تكتشفوا أنكم قتلتم إخوتكم، أمهاتكم وآباءكم وبقية أقاربكم وأصدقاءكم ورفاق الطريق ظلما بالشبهة في سباق المجد والسلطة.
الله عادل، الله سيعاقب من أطلق حنش النقابات الأمنية في لحم الشعب التونسي.
تونس المريضة بعقوق أبنائها ممن أعطاه الباي حصانا 
جاء في بيان نقابة الأمن حول محاصرة قصر العدالة، “السلطة القضائية” في بن عروس، تنديد بـ “جحافل من أشباه الحقوقيين والمحامين الذين عرفوا سابقا بفتح دكاكينهم لخفافيش الظلام”، وهي الصفة التي يطلقها كل أعوان السلطة الغاشمة للتعميم تاريخيا على أنبل ما أنجبت تونس الكئيبة المريضة بعقوق أبنائها من كل من يعطيه الباي حصانا، فيقرر أن يركب على رقاب البشر من إخوانه المواطنين أيا كانت جرائمهم، الذين يدفعون من ضرائبهم أجره ومنحه وبنزين سيارته ومعداته الضخمة، فيحولها إلى تهديد الأمل الوحيد الذي بقي لنا: قضاء مستقل نلجأ إليه حين نختلف مع سلطته ومحامون مناضلون ونشطاء حقوقيون يطلقون صيحات الفزع قبل أن يولد كاتب البيان المخيف، على أمل أن لا يعذبنا أعوان السلطة المتغولة الرافضة للقانون، وأن لا تدفعنا إلى أحد أسوأ الاحتمالين: أن نموت ذلا وكمدا أو أن نعود إلى الثورة.
ألم نتفق أن التعذيب جريمة غير إنسانية، شنيعة ولا تسقط بالتقادم، هل كنت تمارس التعذيب لمتعة شخصية أم لتعليمات صدرت إليك ضد البشرية من أبناء وطنك ؟ وفي كل الحالات، فقد دفع الشباب روحه لكي يحررك من استعمال التعذيب، بصفته وسيلة حقيرة لتحصيل معلومات يطلبها السياسيون ولا تطلبها الحقيقة، إنما ترفضها الإنسانية جمعاء، لا كرامة لمن يمارس التعذيب، أيا كان السبب.

عن الفشل التاريخي لقوة القانون في مواجهة قانون القوة
لا أحب أن أكون مكان القاضي الفاضل الذي قرر إيقاف أعوان أمن من أجل شبهة تعذيب موقوف في محكمة بن عروس وهو يواجه ضغط أعوان الأمن المسلحين بالعدد والعدة ومعدات الدولة وأسلحتها لأن المعادلة هنا غير إنسانية وغير أخلاقية بسبب الفشل التاريخي لقوة القانون في مواجهة قانون القوة، وهي صورة واقعية عن المآل الكارثي التي تسير إليه البلاد. أن ترعب مواطنا بوسائل الدولة وأسلحتها، فهذا قابل للعلاج عند القضاء، أما أن ترعب القاضي، فهذا رسالة إلى كل زملائه من القضاة حول الطرق الأسلم للعودة سالما إلى زوجته وأبنائه وأمه، سواء في مواجهة أعوان الأمن أو أصحاب المال الفاسدين أو الفساد نفسه، طالما هي مسألة قوة.
العلاقة بين القاضي وأقوى رجل في الأمن عمودية: تبدأ تقليديا بوقوف الضابط على مسافة احترام في حالة استعداد ثم أداء التحية بلهجة الرأس، انتظارا للأوامر والتعبير عن الجاهزية للتنفيذ حتى بالفداء بالنفس، وأي خروج عن ذلك يسمى تمردا في كل دساتير العالم.
عزاء هذا القاضي في زميله في محكمة سوسة الذين داهمه في حرم المحكمة 55 عون أمن بالزي القتالي وسط صرخات قتالية لتخليص زميلهم من براثن العدالة، أو في رئيس الحكومة السيد الحبيب الصيد الذي قيل لي إنه “مهما نسي، فلن ينسى محاصرة مكتبه من نقابات الأمن تحت شعار: هبليه يا نقابة هبليه”، ثمة جراح لا تبرأ أبدا، مثل التي يجترحها بعض ممثلي نقابات الأمن، ليس لأنها تمس قاضيا، بل لأنها تمس كبرياء الوطن ومعناه العميق.

الدولة الوطنية بمؤسساتها تمتحن اليوم في قصر العدالة ببن عروس، سؤال منهجي بسيط:
أين المجلس الأعلى للقضاء لحماية السلطة القضائية ؟ أين وزير العدل لحماية منظوريه من القضاة وممثلي النيابة العمومية، أين الوكيل العام ؟ هل يحكم وزير الداخلية سلطته على أعوانه ؟ وفي النهاية أين يوسف الشاهد ؟

Exit mobile version