ناجي خويلدي
الثورات هي لحظات كبرى في تاريخ البشرية، وأغلب الثورات بدأت بشرارة. منها ما كان عفويا، ومنها ما كان محصلة تأطير وتخطيط وترتكز على نظرية. وقد تتخذ أشكالا متعددة، فمنها ما هو ثورات أفراد ضد جماعات، وثورات جماعات ضد مجتمعات أو ثورات مجتمعات ضد أقليات أو مستضعفين ضد طغاة. وحدث هذا منذ الألفية الرابعة ق-م ودخول البشرية الفترة التاريخية باكتشاف الكتابة وانتشارها. فاختراع القوانين أو الشرائع في بلاد الرافدين وظهور مفهوم الدولة -وكانت المدينة-الدولة شكلها الأول- جاء لتلبية حاجة أكيدة لتدعيم استقرار العمران البشري/المجتمع. وهذا الاستقرار لا يكون إلا بتكريس المبادئ العامة للكرامة البشرية، والمتمثلة أساسا في العدل والمساواة والحرية، وهي مبادئ متلازمة لا يمكن الفصل بينها أو تقديم أحدها عن الآخر. فالمس بهذا التلازم يعني اختلال توازن العمران البشري، وهيمنة الظلم والاستبداد والفساد. وبالتالي الحط من كرامة الإنسان، ومن هذه اللحظة يبدأ التراكم لاندلاع الثورات.
فهذا التناقض بين العدل والمساواة والحرية من جهة، والظلم والاستبداد والفساد من جهة أخرى، حدث منذ التاريخ القديم وما زال يتكرر اليوم، وبرز ويبرز في شكل ثورات، منها ما كان فاتحة تاريخ جديد أو قطيعة، بمعنى أن الثورة مثلت حدا فاصلا بين ما قبلها وما بعدها. وقتها أي في حالة القطيعة هذه، ما كان وظل خارج منطق التاريخ من ظلم واستبداد وفساد لم يترك أثره، ومنها -الثورات- ما كان دمويا وعنيفا وقاسيا. ومنها أيضا ما كان سلسا وسلميا وهادئا. فكل ثورة محكومة باللحظة الزمنية التي اندلعت فيها والسياق التاريخي والأنساق الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية المحددة لذهنية وأذواق وسلوك الثائرين.
من هذه الثورات ثورة العبيد على الإمبراطورية الرومانية بزعامة “سبارتاكيس” والتي امتدت من سنة 73 ق.م إلى سنة 71 ق.م. وقد اندلعت من مدرسة للمصارعة، وانتشرت أنباء نجاحها بسرعة لينضوي تحت لواءها الآلاف المؤلفة من العبيد. لكن الجيش الروماني تمكن من القضاء عليها، ورغم ذلك بقيت رمزا للنضال في سبيل الحرية ومناهضة الظلم والاستبداد والمقاومة من أجل العودة إلى الوطن بعد التشرد والتفاعل والتأثر بين الشعوب لأن العبيد كانوا من أصول مختلفة، أوروبية وآسيوية ومن شمال إفريقيا. وثورة الزنوج المضطهدين في مستنقعات الملح بالبصرة في العهد العباسي ضد التمييز والاستغلال والمهانة. وثورة صاحب الحمار وهو مخلد بن كداد اليفرني من قبيلة زناتة البربرية، وقد انطلقت من أحد جوامع افريقية ضد الدولة الفاطمية الشيعية بالمهدية التي عطلت العمل بالمذاهب الأخرى ومارست القمع والإيغال في فرض الضرائب استعدادا للانتقال إلى الشرق في إطار إستراتيجية للاستيلاء على الخلافة ببغداد. ودامت هذه الثورة 13 سنة خلال النصف الأول من القرن الرابع للهجرة الموافق للقرن العاشر ميلادي. ويجمع مؤرخو القرون الوسطى على أن هذه الثورة كادت تنهي وجودها. وثورات الأحرار في عصر الأنوار بأوربا، والمتمثلة أساسا في الثورة الانكليزية خلال الثلث الثاني من القرن السابع عشر، في إطار الصراع بين الملكيين والدستوريين. والثورة الفرنسة التي انطلقت من البرلمان سنة 1789، حين تم رفض اقتراح نواب الطبقة الثالثة التي تمثل الأغلبية باعتماد الاقتراع الفردي، لتشمل كامل التراب الفرنسي وتمتد على حوالي قرن. وثورة علي بن غذاهم، وهو الاسم الذي أطلق ثورة شعبية عارمة اندلعت بالبلاد التونسية سنة 1964 ضد مضاعفة الباي الضريبة، وقد انطلقت من وسط البلاد وغربها لتشمل عدة مناطق في الساحل والجنوب، ودامت عدة أشهر. وصولا إلى الثورة البلشفية سنة 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى ضد سياسة القيصر الاستبدادية والمجحفة في حق الشعوب الخاضعة للإمبراطورية، وقد امتدت حوالي سنة، وبدأت بورجوازية وانتهت عمالية-بلشفية. فإلى الثورات الرقمية، ومنها ثورة الحرية والكرامة من البلاد التونسية في نهاية 2010 وبداية 2011. هذه الثورة التي سرعان ما تحولت إلى ثورات في المنطقة العربية الإسلامية على نظم الاستبداد والفساد والهادرة للكرامة والمنخرطة في نظام عالمي يتخذ من الكيان الصهيوني العنصري المحتل لفلسطين نقطة ارتكاز له في المنطقة.
تعددت أساليب الثورة واختلفت أزمنتها وأماكنها في الأمثلة السابقة، لكنها تلتقي على منطق واحد وهو الرغبة في التحرر والانعتاق من الظلم والاستبداد والفساد. والثابت أن ثورة الحرية والكرامة والثورات التي تبعتها قد استفادت من الثورات السابقة لها، والتي أتينا على ذكر البعض منها، وذلك سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة، أو بصفة واعية (الوعي) أو لاواعية (اللاوعي)، لأن الذات البشرية تراكم وتختزن الموروث القيمي بالمعنى الأخلاقي للكلمة، المحلي منه والوطني والعالمي، في إطار التفاعل التاريخي بين الأفراد والمجموعات والشعوب، والذي تفرضه الطبيعة المدنية للإنسان حسب التعبير الخلدوني. وهذا الموروث يسهم بشكل كبير في تشكيل وعيها وبه تحدد فهمها للواقع لتشخيصه واستشراف المستقبل. فلطالما شدت الثورات السابقة بشخوصها وأفعالها ومواقفها، التي تحولت الى رموز وأيقونات، انتباه الذين آمنوا بأن الثورة آتية لا محالة، وحفز ذلك الإيمان وعمقه لتحوله الى حلم قابل للتحقق. لذلك كان الفعل المقاوم للظلم والاستبداد والفساد من طبيعة ذلك الحلم. ومن هنا تأتي أهمية الأدوات المستعملة في المقاومة، ومن أهمها الكلمة والرسم والصورة والحركة والنحت، وهي أدوات تنتج فكرا كتعبير عقلي، وفنا كتعبير وجداني. وإن حاول المستبد إبادتها باحتكار الفضاءات التي تعبر فيها عن وجودها، وتعذيب أجساد أصحابها إلى حد الإفناء، فهي منفلتة عن المسك ومتجاوزة لحدود الجسد والجغرافيا والزمن، لذلك فالشهيد لا يموت، فهو حي بيننا لا نراه، نعيشه ويعيشنا، يفرح حين نقاوم وندفع بالثورة لتحقيق أهدافها، ويحزن حين نتخاذل أو نبيع لنقبض الثمن، ويئس الثمن.
الثورة كلمة تختزل نضالات وعذابات أفراد وجماعات وشعوب، وتؤسس لواقع ناف للظلم والاستبداد والفساد. ونجاح ثورتنا -ثورة الحرية والكرامة- مرتبط في جزء كبير منه، بمدى نجاعة الفعل المقاوم للمؤمنين بها، لتجاوز حالة التصحر الفكري والفني الموروثة عن فترة الاستبداد، والقدرة على الدفع بثورة ثقافية تحرر العقل لينتج فكرا، وتطلق العنان للوجدان ليبدع أدبا وحركة وموسيقى ونحتا وعمارة وزخرفة ومسرحا، لتغيير ما بالنفوس عقلا ووجدانا. وهذا الأمر يتطلب نفسا طويلا، وهو من طبيعة الثورات، وجهدا كبيرا ليس بالعزيز على عقل ووجدان مؤمن بالإنسان جوهر للكون.