الهزيمة اللغوية

فيصل العلي
من الطرائف أو العجائب التي شهدتها أثناء سجالاتي اللغوية في مسألة تعليم الطفل اللغة الثانية قبل تعلمه لغته الأم تعلما كافيا، أن تُعد اللهجة العامية لغة ثانية مقارنة بالفصيحة!. 
وما الغاية من هذه الفكرة؟
الغاية تبريرية!، أي مادامت العامية لغة ثانية وهي لغة المجتمع الواقعية يتعلمها الطفل في البيت والشارع، فلماذا كل هذا الضجيج واللوم على تعليمنا له الإنجليزية أو الفرنسية قبل أن يتقن الفصيحة؟، فهو يتعلم العامية أصلا وهي تزاحم الفصيحة أيضا وهي لغة ثانية!.
السؤال:
هل نستطيع أن نعد العامية في علاقتها وموقعها من الفصيحة كموقع اللغة الإنجليزية من العربية؟
هل الفرق بينهما فرق عالمين متباينين كل التباين كالعربية والإنجليزية، أم فرق رتبة أو درجة أو تطور؟
إن الجماعة البشرية التي تتكلم العامية اليوم، هي سليلة تلك الجماعة البشرية التي تكلمت الفصيحة، فهما من رحم ثقافي واحد صنع عقلها وشخصيتها ونظرتها إلى الكون والحياة، فكيف إن كانت حضارتهما قائمة على وحي سماوي ودين قام باللغة وحدها وحفظ ذلك الامتداد عبر عشرات القرون؟.
كل دراس للهجات يدرك أنها -بشكل أو بأخر- منحدرة من الفصيحة ولها أصل فيها حتى وإن باينتها في أمور كثيرة، وكثير من النسيج اللغوي العامي يمكن تقويمه وتهذيبه وقبوله في رحاب الفصحى، وهذا ما دعا إليه عادل مصطفى في كتابه، (مغالطات لغوية، الطريق الثالثة إلى فصحى جديدة)، ولا أريد أن يفهم القارئ أنه يدعو إلى إحلال العامية محل الفصيحة!، إذ ليس هذا القصد، بل أراد أن نخفف من تشددنا وتمسكنا بالتعابير القديمة ونقبل الحديثة ما دامت راجت في الاستعمال ويمكن أن تستوعبها الفصيحة بلا تشوه.
وحتى إن كانت العامية غير معربة وفيها تراكيب ومفردات لا تتفق والفصيحة، فالموجودات كلها، أسماؤها في العامية والفصيحة واحدة، فعلى الأقل: البيت أو الكتاب أو الأمل أو الحب…إلخ هي ذاتها في الانثنين وليست هوم أو بوك أو هوب أو لف…!!!.
وما السر الذي يجعل السوري أو العراقي أو السعودي أو المصري…إلخ يفهمون لهجات بعضهم بتكلفة بسيطة من الوقت والجهد ولا يفهمون لهجات الإنجليز والفرنسيين إلا إذا شدوا الرحال وأفنوا من المال والآجال ما أفنوا لكي يتعلموها!.
هذا الزعم بأن العامية لغة ثانية كالإنجليزية أو غريبة عن الفصحى كغربة الإنجليزية زعم عجيب والله! يتولى كبره أولئك الذين يريدون أَثارةً من وهم ليدعموا نظريتهم في مزاحمة الإنجليزية للعربية في قلوب أطفالها الغضة، في عقر دارها وأجنة مستقبلها، ليخلقوا أمساخا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء!.
ثم إن كنتم ترون أن العامية لغة ثانية، فالحل ليس أن تجعلوا من ذلك مبررا لتقديم الإنجليزية مع الفصيحة في الفترات المبكرة من تخلق شخصية الطفل، بل الحل أن تجعلوا من الفصيحة لغة الحياة فعلا، أن تعززوا حظها في حياة أولادكم..
والطفل يتعلمها أصلا في المدرسة ومن التلفاز وفي المسجد…إلخ. ومع العامية التي تنتمي إليها مهما بعدت، سيكسب لغة واحدة هي لغته الأم.
وليست العربية بدعا في ذلك فكل لغات العالم لها وجه معياري فصيح ووجه شعبي أقل فصاحة أو أكثر استخداما في الحياة.. لكن الهزيمة لا دين لها.
ـــــــــــــــ
• تنويه: كل ما أكتبه في هذا الموضوع، أقصد به الأطفال العرب في مجتمعاتهم العربية وليس في عالم المهجر، ففي المهجر فقد أصبحوا أبناء تلك المجتمعات ولغاتها..
لأن الأمر في المجتمعات العربية يتعلق بالجماعة وحضارتها ومصيرها وليس بالأفراد وخياراتهم الشخصية..
ملاحظة:
ثنائية لهجة/فصحى ظاهرة واسعة الانتشار في العالم. وهي تلاحظ في الصين والهند وفيتنام وأندونيسيا وإيطاليا وألمانيا وسويسرا وإسبانيا والعالم العربي على سبيل المثال لا الحصر.

Exit mobile version