الهجة الكبرى وسياسة إخصاء الذات
مهندسون، أساتذة وأطباء… وسياسة إخصاء الذات.
عشرات الآلاف من العلماء: مهندسون، أطباء، أساتذة جامعيون وباحثون في أعلى درجات الكفاءة يغادرون البلاد بحثاً عن حياة أفضل، وخاصة عن بيئة تحترم علمهم وكفاءتهم. لا شك أن هذه الظاهرة تمثل خطراً إستراتيجياً مقلقاً جداً، وهي بمثابة النزيف الحاد الذي لو إستمر على هذه الوتيرة، لن يفصلنا وقت طويل عن انهيار الجسد من شدة الهزال. إذ أن الأساتذة الجامعيين هم إبتداءً الضامن لتكوين مهندسين، وتقنيين وأساتذة جيدين. والمهندسون هم على مر العصور القاطرة الفعلية لكل نهضة إقتصادية للأمم. أما الأطباء فهم أحد العناصر الجوهرية لكرامة الفرد، ومن ورائه المجتمع. والحقيقة أن الحكومات المتعاقبة لم تكن فقط غير مهتمة بهؤلاء وغير معنية بمشاكلهم، بل كانت أقرب إلى طردهم وإجبارهم عنوة على الرحيل.
فكيف يعقل أن لا يهرب المهندس التونسي بجلده، حين يعرض عليه العمل في أوروبا بعشرة أضعاف أجره في تونس. وكيف يبقى الباحث في تونس، حيث لا ميزانية للبحث، ولا هم يبحثون… وكيف يبقى الأطباء في تونس والأطباء الداخليون (internes) والمقيمون (résidents) لا صفة قانونية لهم… بينما على أكتافهم وبلياليهم البيضاء يقف المرفق العمومي على رجله العرجاء البين عرجها… ثم يطيرون جماعاتٍ وأفراداً، ولسان حالهم يلهج: “أضاعوني وأي فتًى أضاعوا”…
وكأن كل هذا لا يكفي، يجابه الراحلون (المرحلون) بجدلية شعبوية مفادها أن المجموعة الوطنية بذلت الكثير من أجلكم. أما أولئك الباقون الذين يسعون في رفع راية الإصلاح والتحسيس بعمق الإشكالات، فمصيرهم أن تطلق عليهم الحملات الإعلامية المسعورة قدحاً وغمزاً… من أشباه صحفيين يمتهنون الحشو والتفاهة في أحسن أحوالهم. فهم بين السكوت المهين، والتشويه الهابط، أو الدعاء “أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون”… إلى حين “الهجة” الكبرى.
وعوض محاكمة هذه الكفاءات التي قررت “الهجة” من البلد، يجب على من كان له بقية عقل في هذه البلاد أن يساند هؤلاء المهندسين والأطباء والأساتذة الباحثين. فإصلاح هذه القطاعات هي شرط واجب لإصلاح ما سواها من القطاعات. أما مواصلة الحكومة لهذه السياسة فهو عملية اخصاء ذاتي، وعوض سياسة النعامة… على الحكومة لا فقط أن تتحاور مع هؤلاء، بل أن تعتذر لهم ثلاثاً.
ويل أمة تهين علماءها… ولا يفلح قومٌ يدفعون أبناءهم للبحر، وما وراء البحر.
جريدة الراي العام _ Array Alaam