Site icon تدوينات

مُجَرِّمُون للتطبيع أم وُشاة للصهاينة ؟

طه البعزاوي

ترتفع الأصوات وتنتفخ الأوداج من حين لآخر في سوق المزايدات السياسية بغرض تسجيل نقاط ضد الخصوم ولعل من أكثر المواضيع تكرارا في سوق المزايدات السياسية هو موضوع “تجريم التطبيع” مع الكيان الصهيوني المحتلّ، ذلك لأنه موضوع حساس وأسهم بورصته عالية في العاطفة الشعبية التي في مجملها مناهضة للاحتلال ومناصرة لحقّ الشّعب الفلسطيني والأمّة العربية والإسلامية في فلسطين المحتلّة!

والمقصود بالتّطبيع أي جعل الشيء طبيعيّا أو عاديّا خلافا لحقيقته وواقعه، وهو في حالنا هذه تطبيع العلاقات مع الكيان الصّهيوني المحتلّ لفلسطين، على مستوى الدولة بالتبادل الديبلوماسي وغيره وعلى مستوى الجمعيات بالتعاون والتكامل والتنسيق وعلى مستوى الأفراد بالمصادقة والتّزاور والتّصاهر وغير ذلك مما هو غير كائن حاليّا في تونس أو غيرها من البلاد العربية.
ويقابل التطبيع مقاطعة الاحتلال ورفضه ومقاومته بكل الأشكال المتاحة ودعم ذلك ماديا ومعنويا، وهو الوعي السائد لدى عامة المسلمين عربهم وعجمهم مهما كان موقف أنظمتهم.
وأما تجريم التطبيع المُطالب به فهو سنّ القوانين المانعة لأي تقارب مع المُحتلّ، وهو في ظاهره تتويج ومزيد حماية في مواجهة الإختراق الصهيوني الذي يعمل جاهدا على عزل الشعب الفلسطيني المقاوم عن عمقه العربي والإسلامي والذي بدأ يتمدد في ظل تخاذل الأنظمة العربية المنصبة كرها على شعوبها.

ومن هذا المنطلق فإن المُسَلّم به عند عامة الشعوب المسلمة أنها ضدّ التّطبيع ومع تجريمه، وقضيّة فلسطين هيّ القضيّة المركزية التّي يجمع عليها الناس مهما اختلفت آراؤهم ومشاربهم الفكرية أو طوائفهم.
فما الذي يجعل قلة من النخبة التونسية أصواتها مرتفعة في المطالبة بتجريم التطبيع وقسم آخر أصواتهم خافتة ومواقفهم مماطلة في سن هذا القانون؟
المُتتبع لأداء هذه النّخبة يدرك أن الموقفين أبعد ما يكونان عن الشأن الفلسطيني ومناصرة قضيته العادلة أو خذلانها وأن المسألة لا تعدو أن تكون “تونسية-تونسية” وصراعا “سياسويا” تظهر بعض خباياه أحيانا في فلتات الألسن. ولو أن المواقع تعاكست لتبعتها المواقف أى لو أن الذين هم في السلطة اليوم أو الأمس كانوا في المعارضة لكانت مواقفهم أميل إلى التجريم ولو أن الذين هم في المعارضة كانوا في السلطة لكان أغلبهم أقرب للتطبيع منهم لتجريمه والحديث ليس عن عموم هذا الطرف أو ذاك وإنما الحديث عن البعض أو الجلّ.
الذين طالبوا بتجريم التطبيع في الدستور كان هدفهم الإساسي متساوقا مع بقية أدائهم السياسي في الداخل أي هو مطلب متناغم مع الإضرابات العشوائية والتدمير الممنهج للإقتصاد وذلك بهدف إفشال تجربة النهضة في الحكم، إفشالها داخليا بتدمير الإقتصاد وإفشالها خارجيا بتحريك اللوبيات الصهيونية المتنفذة دوليا ضدها بهدف صناعة “فيتو” دولي ضدّها وحرمان تونس في ظل قيادتها من المساعدات والقروض التي لا تُسيّر الدولة من دونها، والنهضة بصفتها حركة إسلامية في الأساس عانت وتعاني من الضغوط والإبتزاز الدولي على مجرّد الصفة، فكيف إن هيّ تزعّمت تجريم التطبيع مع الكيان المحتل الإبن المدلل للغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي؟!
ورغم أن المشهد تغيّر بعد انتخابات 2014 فلم تبق النهضة متزعّمة للمشهد السياسي إلا أن “مقاومو الصهيونية” ومشابهوها في حبّ استئصال الخصوم استمرّوا على نفس النهج المعيق داخليا والماكر خارجيّا! وهي مواقف في أغلبها مشبوهة ليست نابعة من فكر قومي ولا أممية إسلامية ولا مناصرة مبدئية إنسانية لشعب تائق للتحرر من الإحتلال.

قد يعتقد البعض أن هذا تحليل متعسف فما علاقة تجريم التطبيع بالإضرابات؟
نجيب بأن خيط الترابط بينها يظهر أحيانا في فلتات الألسن، فإذا عدنا مثلا إلى تصريح السيد حمة الهمامي أمين عام حزب العمال الشيوعي والناطق باسم الجبهة الشعبية على راديو شمس نجده يوافق تماما ما ذهبنا إليه من تحليل، ففي ردّه على الشيخ راشد الغنوشي بخصوص موقفه من انضمام الشهيد محمد الزواري للمقاومة الفلسطينية قال الهمامي
“(الغنوشي) يخاف ليزلق بكلمة تحاسبو عليها أمريكا ويحاسبه عليها الإتحاد الأوروبي وتحاسبو عليها الكيان الصهيوني وتحاسبو عليها بلدان الرجعية العربية” والمقصود في نظر السيد حمة أن الغنوشي يخشى من تبنّي الشهيد الزواري ومشاركته في المقاومة ويخشى أن يقول كلمة تدعم المقاومة في فلسطين فتتسبب تلك الكلمة في غضب أمريكا وأوروبا والكيان الصهيوني والدول العربية”!
وسؤالي هل إن السيد حمة مستعد لمواجهة كل هذه “الكيانات” ومحاسبتها له وماذا لو أنه فاز بالرئاسة التي ترشح لها تحت شعار “حمة ولد الشعب” هل كان سيتبنّى مشاركة الشباب التونسي في المقاومة بفلسطين ويدعمها ماديّا ومعنويّا ويتبجّح بذلك دون أن يلجأ إلى ما سماه هو “بالترهدين في السياسة” الذي نعت به الغنوشي في تصريحه المذكور ؟!
الشهيد محمد الزواري رحمه الله المهجّر النهضوي -الذي “تبرّأت من أمومته النهضة كما تبرّأت أم موسى من رضيعها (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)- عمل في صمت وأبدع في دعم المقاومة، فأرادوا أن يحرجوا النهضة بحشرها في زاوية تبنّيه كي يسلطوا عليها “أصدقاءهم” المناصرين للكيان الذي يراد تجريم التطبيع معه!… فلما أعلنت النهضة أن الزواري مقاوم مستقل عنها وأنه منتم لتنظيم خارجي بما ينفي عنه الإنتماء للنهضة أسقط في أيديهم وبقي لهم أن يستثمروا ذلك شعبيا لإحراج النهضة فيعلنوا تبنّيه ويوشحوا جدرانهم بصوره… وللأسف هكذا هي السياسة في تونس أغلبها سياسة الضد!… حتى أننا لا نحتاج أن نعرف موقف حزب أو رمز من رموز المعارضة إذا عرفنا موقف ضدّه!

وإذا جاز أن نسأل من هو المطبّع، أهو الذي يطالب بتجريم التطبيع ولكنه يعيق اقتصاد الدولة حتى تنهار أو تغرق بالديون، أم الذي لا يطبّع ويسكت عن تجريم التطبيع ولكنه يبذل الجهد حتى تستمر الدولة ويقف الإقتصاد ويتخلّص ولو تدريجيا من تبعيته المذلة لأي فريق جاء للحكم عبر الصندوق؟
مواقف معارضتنا اليوم تشبه تماما موقف أحد زعمائهم السابقين حين كان وزيرا للتعليم العالي، فقد قال منددا بإلإضرابات الطلابية “إن إضراب يوم يعني إهداء يوم جهل للكيان الصهيوني” ولكنه بهدف منع الطلبة من مناصرة العراق ضد الغزو في حرب الخليج سنة 1990 أهدى الصهاينة 13 يوم من الجهل مجانا حين قرر إيقاف الدروس وإغلاق الجامعة!
وعليه فإن كثيرا من المطالبين بتجريم التطبيع لا تعنيهم فلسطين ولا صهاينة بقدر ما يعنيهم تسجيل النقاط ضد خصومهم، بل هم يستثمرون علاقاتهم في الجمعيات والمنظمات الدولية -حتى التي فيها صهاينة- فقط لتحقيق أهدافهم!

وإننا لا يمكن أن نصدّق الزعم بمناصرة المقاومة ممن لا يناصر بلده ولا يعمل من أجل النهوض باقتصاده وتقدمه وتحرره من الهيمنة، فالطريق إلى فلسطين نجده في المصنع والورشة والإدارة والمستشفى والمنجم ومقاعد الدرس والجمعيات والمنظمات وفي احترام إرادة الشعب وإن كانت “خاطئة”!
عندما يفهم ساستنا -الذين هم في الحكم أوالمعارضة- هذه المعادلة حينها تكون الأمة قد خطت خطوة في اتجاه فلسطين!
وحين يفهم أنصار قانون تجريم التطبيع -ولست ضده- أن ليس هذا هو عنوان الدعم الحقيقي للمقاومة، وأن قانون التجريم على افتراض وجوده لن يحلّ المشكل الحقيقي، وسيظل الصهاينة يمرحون ويرتعون في ربوعنا بذواتهم أو عبر وكلائهم! حين يفهم ذلك نكون على طريق الدعم الحقيقي لفلسطين.

نحن عموما أمة الصخب واللغط والزهد في الفعل! على عكس خصومها الصهاينة تماما فهم أمّة الفعل والصمت إلا فيما يخدمهم أو التظلم والبكاء وتصوير أنفسهم ضحايا في بحر متلاطم من العدوان!
هم يحتلون الأرض ويتمددون ويقتلون المدنيين والأطفال ويدمرون الحرث والنسل ولكنهم دائما يصمتون أو يبررون أفعالهم بأنهم لم يفعلوا ما فعلوا إلا دفاعا ضروريا عن النفس! حتى أقنعوا العالم بذلك. ومن يتابع الإعلام الغربي في عمومه يجد أنه حفظ منهم الدرس فهو يبدأ بتبرير أفعالهم الشنيعة قبل ذكرها، هم قلّة في العالم ولكنهم يمسكون القوى العالمية الكبرى من أعناقها ولكن في صمت ودون تبجح أو غرور! وأما نحن فإننا “ألقينا بإسرائيل في البحر” منذ حوالي ستة عقود ذلك الشعار الأجوف الذي يقتات عليه الصهاينة إلى اليوم ويجلبون به لأنفسهم التعاطف الدولي! ونحن في كل الحروب نسقط طائرات العدو كما تسقط أوراق الخريف” فلما ينقشع غبار المعركة تتبين كوارث الخطاب والغوغاء والكذب قصير الحبل!” هم مساكين مستهدفون في أمنهم ووجودهم ونحن بغاة معتدون” هذا ما نجحوا في إقناع العالم به وذاك ما يساعدهم عليه “مقاومو” الخطابات الجوفاء!
مع التذكير أنه منذ احتلال فلسطين إلى اليوم نجد أن كل الذين وفقوا في مواطئ تغيض العدى قد عملوا في صمت ودون ضوضاء ولا صخب، وأما السماسرة ففعلهم وتخصصهم هو السمسرة مهما كانت الصفقة مشبوهة!
هل عرفتم الآن لماذا سميتهم وُشاة لا مُقاومين؟؟

Exit mobile version