النهضوفوبيا: تنفيس لعقدة خوف أم تصعيد لرغبة إستئصال ؟

نور الدين الختروشي
ليس جديدا ما تشهده الساحة العامة من دعاية مضادة وسب وتشويه لحركة النهضة، وليست حملات القصف الاعلامي الممنهج والمكثف وليدة الزمن السياسي الجديد. فقد دشنت الدعاية المضادة للاسلاميين انتاج خطابها مذ ولدت تلك الحركة ذات يوم من جوان 1981. فوصمت بأقلام مرتزقة الاعلام البورقيبي يومها بالحركة الخمينية أي لادراجها في خانة العمالة للايرانيين وخدمة مشروع التشيع الصفوي، ثم سرعان ما ألتحقت أقلام يسارية وازنة بحملات التشويه الممنهج للاسلاميبن، وأغنت خطاب الدعاية والتحريض عليهم بتسميات جديدة من نوع الرجعية والظلامية.
وتسجل الذاكرة الوطنية أن أكبر حملة استئصال أمني للنهضويين في بداية التسعينات، بدأت بكتيب أصدره زعيم العمال الشيوعي حمة الهمامي بعنوان “ضد الظلامية”.
هذا الالتقاء الموضوعي بين النخب اللائكية البورقيبية التي رأت في الاسلامي عدوا لمشروع التحديث الثقافي البورقيبي المشدود للنمط الغربي والفرنسي منه تحديدا، وبين اليسار العقائدي الذي رأي في الاسلاميين مجمع انتكاسة خالدة عن معنى التقدم باعتبارهم تجسبدا اجتماعيا للدين كأفيون للشعوب.
الاسلاميون التونسيون ومنذ ظهورهم في المشهد العام بداية الثمانينات من القرن الماضي، وجدوا انفسهم في مربع الفصف الدعائي المنهجي والمكثف من دساترة بورقيبة بدالة الدفاع عن الدولة ونمطها الثقافي والمجتمعي التغريبي، وبين مدافع اليسار الذي رأى في الاسلامي ومن منظور مرجعيته الماركسية وجدلها التاريخي نفيضا موضوعيا، ضرورة وواجب تصفيته الرمزية والجسدية استجابة سياسية وعينية لشروط وحتميات التطور الخطي للتاريخ.
ليس من مطمح المقال النأريخ لعلاقة الاسلاميين التونسيين بالبورقيبيين واليسار، فلا المجال يسعه ولا كانب المقال يدعي تملك أدوات التحليل التاريخي ليكتب “في” التاريخ. مع حدة انتباهه لمشروعية الكتابة “حول” ذلك التاريخ. ما قصدناه بهذه المقدمة هو التأكيد على أن العنف الرمزي الذي يستهدف النهضويين هذه الأيام، ليس جديدا في الخطاب السياسي والاعلامي للنخب الفاعلة في المشهد العام، بل هي امتدادا وإعادة إنتاج ستاتيكي وجامد لمفردات خطاب التجييش الحربي ضد الاسلاميين منذ أكثر من ثلاثة عقود. نسجل هذا لحساب الذاكرة لنتسائل اذا كانت مبررات حوامل خطاب الدعاية المضادة للاسلاميين مفهومة بجرد الماضي، سواء بتحليل وعي الذات والآخر في خطاب الاسلاميين وخطاب خصومهم، أو بتفكيك مفردات الخطاب السياسي ومفاعيل إنتاجه زمن ولادة وتطور تجربة الدولة الوطنية.
فإن ما يدعو للدهشة، ويستفز التفكير هو أساسا وتحديدا إستمرار إنتاج نفس الخطاب بحوامله ومفرداته في الزمن السياسي الجديد الذي دشنته الثورة ؟
نسجل بداية أن من أهم جديد الثورة هو الاقتحام الرسمي لحركة النهضة للحقل السياسي، لا كمجرد مكون للمشهد، بل كفاعل مركزي في الفضاء العام وكمشروع “حاكم ممكن” لتونس الجديدة.
هذا التحول التاريخي الثقيل الذي فرضته الثورة، لم يشذ عن قاعدة الصدمة أو “الاستثناء” الذي واكب الثورة ذاتها وتاليتها السياسية فالنهضة التي كانت طريد الحياة العامة في غياهب السجون، وشريد الحي المسكين التائه في مشارق الارض ومغاربها، والتفاحة الممنوعة على الجميع عدم الاقتراب من نجاستها، أستدعتها الثورة من قصي الهامش إلى قلب المركز في انقلاب مشهود للموقع واستتباعه الوظيفي المباشر.
فلم تنقذ الثورة “الاسلامي. الطريد” من رحلة الضياع السياسي، بل أوكلت له إدارة لحظة بينية هائجة ومائجة على خط الفصل بين ملوحة مياه الاستبداد وعذوبة مياه الديمقراطية.
ولم يتبوأ الاسلامي التونسي موقعه الجديد من مخاضات تطور في وعيه الذاتي، ولا من حواصل مراجعات لوعي خصومه، بل بمفاعيل الصدفة ذاتها التاريخية التي فجرت الثورة.
فقد ظهرت مبكرا بوادر هواجس الخوف من “الغول الاسلامي” لدى النخب التي هندست مشهد ما بعد الثورة، ولم يكن قانون البقايا الانتخابي سوى رسالة أولى على الحساب “لسوء النوايا” التي استقبلت بها النخب القديمة / الجديدة النهضويين.
لن نستعيد المرحلة التأسيسية وما شهدناه في الفضاءين السياسي والمدني من تجييش المرئي والخفي، واستعمال المباح وغير المباح، في حرب مقدسة ضد النهضة وحكومتها انتهت إلى تخوم التحارب الأهلي بمباركة خارجية، وعلى قاعدة تحالف قديم تجدد بين أصولية لائكية معادية للهوية العربية الاسلامية ثقافيا ومتلحفة بلحاف البورقيبية سياسيا، وأصولية يسارية مجحفة حد الجنون في عدائها الانطولوجي للاسلاميين.
وكم كان صادما أن تعود بقايا النظام القديم على فرس اليسار الذي وقع قبل ذلك بسنوات قليلة وثائق مبادرة 18 اكتوبر الشهيرة، وما أشرت عليه يومها من ممكن تجاوز التناقض الايديولوجي بين اليسار والاسلاميين على قاعدة المشترك الوطني سواء في موضوع الهوية أو في عنوان الحريات العامة.
المسار السياسي بعد الثورة أثبت حقيقة في حجم السماء، مدارها جدية وتراكمية الوعي بالسؤال الديمقراطي لدى الاسلاميين وصميمية ولائهم للحرية، في مقابل ضعف وهشاشة الوعي بالديمقراطية وتمثلها لدى خصومهم الواقفين على أبواب الوصاية على ما سمي بالنمط الحداثي التونسي. وقد أظهر اليسار التونسي قدرة غريبة على نسيان جوهره الايديولوجي في تلك المنطقه واستعداده للانصهار والذوبان في كهوف نقيضه البرجوازي الكمبرادوري المباشر من أجل أولويته المقدسة في تصفية عدوه الاسلامي.
التحول العميق الذي استجلبته الثورة في موقع ووظيفة الاسلامي من ذلك “المطارد البعيد” إلى هذا “الحاكم الجديد”، كان من المفترض وبالنظر إلى ما أبداه النهضوي من قابلية وازنة وناجزة وملموسة لتتجدد وتجاوز قوالبه الايديولوجية التقليدية، وأقانيمه المفهومية الشائعة، كالأسلمة والشمولية والتمكين، كان من المفروض أن يستقبله خصومه التاريخيين بمقبولية طبيعية، على اعتبار أن تلك المراجعات كانت في مقدمة مطالبها وشروطها للقبول بشرعية الحضور السياسي للاسلاميين في الفضاء العام.
إلا ان الواقع شهد على رفض من “حيث المبدأ” -وعلى الحساب الدائم ومن دون استعداد لقراءة الكتاب- للاسلامي الجديد. وبصفاقة صادمة، مارست اللائكية الموزعة بين أقاصي اليمين واليسار خيانتها المزدوجة في حق مرجعيتها الحداثية اولا، وفي حق الزمن السياسي الجديد الذي دشنته الثوره.
نجحت حركة النهضة كما أشرت على ذلك مخرجات مؤتمرها العاشر في تجاوز محنة سؤال التجدد على أرضية مرجعيتها، وفشل خصومها في مجرد امتحان الانسجام مع ما تدعيه من نسبة للحداثة والتقدم. فالاسلامي الذي من المفترض بحكم مرجعيته الشمولية أن يتحرك في زمن الحرية في أفق تأميم المجال الوطني لصالح حقائقه المقدسة، نطّ بسرعة وأناقة إلى ضفة الاندماج في اللحظة الليبرالية والزمن السياسي الجديد، وقدم تأويلية مغايرة للسائد في فضاء الاسلامية الحركية عربيا، جوهرها تقعيد نظري ممكن للمصالحة بين الاسلام والديمقراطية، دون التضحية بجوهر الهوية، ولا القفز على شرط الحرية.
في المقابل تمترس حراس المعبد اللائكي من نخب اليسار واليمين وما بينهما بقوالب ايديولوجية مغلقة ومغرقة في سلفيتها البدائية استبطانها الطفولي للدين نقيضا للعقل والتنوير، ومدهشة في صفاقة إعادة إنتاج أوهامها حول الخطر المفترض لرجعية وظلامية الاسلاميين.
تحليل تحتيات مفارقة تقدمية الاسلامي التونسي من جهة وسلفية غريمه اللائكي من جهة أخرى، لا يمكن دفعها نحو أقاصيها دون الإنتباه إلى مركز الرهان الجديد الذي فرضته الثورة على النهضوي بانتزاعه القاسي من فضاء المعارضة الشاملة للسائد الثقافي والسياسي والاجتماعي، إلى مربع الإستئمان التاريخي على المصير العام، وفرضت عليه بحكم الصندوق أن يتقدم لإدارة أجهزة الدولة التي تغذى مخياله النضالي على ضرورة الإطاحة بها وفسخها، باعتبارها منتوج مشوه للإستعمار الجديد.
عمق وخطورة التحول في موقع ووظيفة النهضة بعد الثورة يتعلق بجدل التداعي المباشر لاستراتيجيات استهدافها مع استراتجيات إستهداف الدولة.
فمعلوم أن المنجز الاساسي الذي ميز الثورة التونسية عن بقية بلدان الربيع العربي هو في نجاحها التاريخي الوازن بإسقاط النظام مع الحفاظ على الدولة، في حين عصفت بقية الثورات بالسلطة والدولة ، وفتحت مصيرها على مجهول التحارب الأهلي، والعودة إلى زمن ما قبل الدولة.
استراتجيات مواجهة الاسلاميين كان أساسها وعمادها قبل الثورة استخدام شرعية العنف الرسمي للدولة وأدواتها في تصفية الوجود الرمزي والجسدي للاسلاميين، ولم تحرم الثورة أعداء النهضة من هذا السلاح الفتاك فقط، بل أنجزت المصالحة التي كانت تبدو مستحيلة بين الاسلامي والدولة.
جموح وتطرف وشراسة الخطاب العدائي للنهضة اليوم لا يمكن فهمه خارج إطاره الجديد، والمتصل بعدم قبول خصومها بحرمانهم من أداة صراعهم الوجودي المعلن معهم. ولذلك عبروا في أكثر مناسبة على استعدادهم لاستهداف الدولة ذاتها، أذا لم تستجب لرغبتهم في توريطها من جديد في منكر حسم الصراع السياسي باستخدام أجهزتها وآلياتها وأدواتها.
بين التحارب والفوضى وتدمير الدولة وتفسيخها، والقبول بالتعايش مع النهضة، إختار خصوم الاسلاميين في أكثر من مناسبة مبدأ حرب الكل ضد الكل، وحرق الأخضر واليابس بمنطق عليا وعلى أعدائي. ولم يكن اعتصام الرحيل المؤشر الوحيد على إرادة الانقلاب والردة على الثورة والدولة، بل ما يتردد هذه الأيام على لسان نوابهم ورموزهم السياسية من دعوة معلنة لسفك الدماء وتعميم الفوضى، ليس سوى تصعيد لرغبة قديمة ومتجددة في استئصال الاسلاميين وإن كان الثمن التضحية بالوطن.
الرد التاريخي على استراتيجيات الحرب على النهضة، لن يكون سوى التمسك بالديمقراطية كمنجز ماثل للثورة، والانحياز الاستراتيجي لورشة استعادة الدولة لوظيفتها الطبيعية كحاضنة دستورية محايدة وفوق الجميع لاجتماعنا السياسي الوطني، وقناعتي راسخة أنه بقدر ما سيتعمق معنى المصالحة بين النهضويين والدولة، سيندفع خصومهم أكثر في مجهول التحول من مربع المعارضة للخصم الاسلامي إلى أرض جريمة التآمر على الدولة.
جريدة “الرأي العام” (التونسية)

Exit mobile version