أنتم جميعا أحرار في أعيادكم
عبد اللطيف علوي
لست، من حيث المبدإ، ضدّ عيد الحبّ أو عيد الكرمب، أو عيد ضرب الجيران، ولا ضدّ عيد التّحرّش أو حتّى عيد التّلاصق في الحافلة الصّفراء أو على أبواب المسرح البلدي ليلة الافتتاح والاختتام السّنويّ لأيّام قرطاج السنمائية.
أنتم جميعا أحرار في أعيادكم ما في ذلك شكّ، وأنا لا أملك لكم سوى قليل من الاشمئزاز من بعيد، ثمّ أعزّي الضّحايا منكم، وأهنّئ النّاجين في كلّ مناسبة لا أكثر ولا أقلّ…
أنا من زمن عاش الحبّ، ولم يجد الوقت ولا المال ولا الشّمس ليحتفل به، وأنتم اليوم تحتفلون بالحبّ ولا تعيشونه!
أعيادكم تشعرني أنني مخلوق متحجّر من بقايا العصر الجيولوجيّ الثّالث…
أنتم رومانسيّون جدّا ورائعون وحالمون،
أمّا أنا فلا أستطيع أن أكون رومانسيّا في زمن نجلاء وزازا وناريمان وهيام ووهاك العزرّا الأخرين ، نجوم المسلسلات التركية الّذين لا أحفظ أسماءهم…
أنا ابن زمن آخر…
زمن الرّسائل الطّويلة المكتوبة بخطّ اليد ودمع العين وحبر القلب… الرسائل الطّوييييلة جدّا… نضمّخها بأرواحنا وآهاتنا ودموعنا وتنهّداتنا…
أنا ابن زمن عبد الحليم، والوسادة الخالية، وفاتن حمامة… وأمّ كلثوم… وعفاف راضي… ونجاة الصّغيرة ونور الهدى… يا جارة الوادي، وفايزة أحمد… حبيبي يا متغرّب… وفريد الأطرش… آدي الرّبيع… وأضنيتني بالهجر… ومحرّم فؤاد… وأسمهان… ااااه… يا لأسمهان… اسقنيها بأبي أنت وأمّي…
أنا ابن زمن “الكاسات”، حين يهديها الحبيب لحبيبه، فكأنّه أهداه الدنيا وما فيها… يستمع إليها فوق السّطح في ليالي الصّيف، وعيناه موثوقتان بالنجوم وبالقمر، تطلّ منه الحبيبة وتناجيه بكلّ كلمات تلك الأغاني… فتمتلئ روحه وتخفّ وتحلّق في أعلى سماء علّيّين…
أنا ابن زمن الصّورة اليتيمة للحبيبة، يخفيها بين طيّات ثيابه وتحت جلده، يهرّبها كالحشيش ويبقى السّاعات الطّويلة وهو ساهم فيها، ذاهل عن الوجود… حتّى تتحرّك بقدرة قادر وتهمس إليه ويهمس إليها…
أنا ابن جيل بلا هاتف، وبلا عنوان… كانت العطل أقسى ما في حياتنا… لأنّها تحرمنا من رؤية الحبيبة لأسابيع أو لأشهر… وحين يأتي سبتمبر،،، نطير إلى المعاهد كما تطير الخطاطيف إلى رحاب مكّة… قلوبنا تسبقنا وعيوننا مرايا من زجاج…
أنا ابن الزّمن الّذي كانت فيه المرأة سرّا وجوديّا عظيما، وهالة من نور ونار… تسعدنا منها اللّفتة والنّظرة والبسمة وإطراقة الحياء والوعد الغامض والكلمة اليتيمة والوهم الجميل…
كنّا نخاف عليها من لمستنا… من كلمة تجرحها… من عين تراها وتظنّ بها ما لا تشتهي…
أنا ابن زمن الكلمة… كلمة “أحبّك” الّتي تولد في أعماقنا في خلوة كصلاة الأنبياء…
ونظلّ نحرسها في أعماقنا وهي تنمو، نذود عنها الرّيح والمطر والضّباب…
كيف لي أن أتعايش مع أعيادكم السّخيفة الغامضة…
أعياد اليكترونيّة استهلاكيّة خلقتها رأسماليّة الحبّ البلاستيكيّ لغزو الأسواق وتسليع القلوب؟؟
أريد أن أحمل زمني في داخلي، دون أن تتسرّب إليه حماقاتكم وسخافاتكم وبذاءاتكم، كما تتسرّب أشعّة اليورانيوم المنضّب، إلى قلب الأرض الطّاهر، فتسمّمه وتسرطنه وتخنق فيه الحياة…
طابت أعيادكم أيّها العاشقون!!!
أمّا أنا…
فأعترف أنّني…
قد عشت!!
كلام على الكلام
من طبائع البشر أن يحنّوا إلى ماضيهم، فهم صنيعته، وفي أرواحهم تسري حكاياته مثل اللّقاح السّحريّ ضدّ النّسيان.
لكنّ الأمر يصبح أكثر إثارة وعمقا حين نتحدّث عن جيل السّبعينات والثّمانينات، لأنّه ببساطة، جيل عاش عصورا طويلة في ومضة زمنيّة خاطفة مضغوطة، أشعر أنّنا عشنا زمن العصور الوسيطة، ثمّ مررنا بسرعة لا زمنيّة لنعيش عصر النّجوم. عاصرنا تغيّرات رهيبة من حولنا كانت تستغرق مئات السّنين في السّابق كي يتغيّر وجه الأرض وحال النّاس وطعم القيم. اليوم ونحن نلقي نظرة إلى الوراء، نشعر أنّ آلة الزّمن دارت في العقدين الأخيرين بسرعة مجنونة، كافية لتحرق عقولنا بالكامل وهي تحاول لاهثة أن تمسك بتفاصيلها وتستوعبها.
هذا يفسّر في جزء كبير منه دفقة الحنين المبالغ فيه ربّما، عند البعض، في نصوصي.
أنا متعب جدّا ومشوّش وحزين أيضا، أحمل في داخلي زمنا كاملا بكلّ تفاصيله وسرعته البطيئة، يترسّب مثل جبال الثّلج الّتي ترفض أن تذوب، وتزحف رويدا رويدا نحو الأعماق دائما، إلى ماضيها ومنابعها الصّافية البعيدة.
عندما تحدّثت عن الحبّ في أيّامنا، لم يكن القصد أن أعلن عن موته بعدنا وأقيم له مأتما وعزاء. كان القصد فقط أن أقول إنّ جيلنا كان محظوظا إلى حدّ بعيد. وهبته الحياة فرصة الشّهادة على حالة الانتقال الكبرى الّتي شهدتها البشريّة، وهاهو العالم يتغيّر، وسيتغيّر أكثر حتّى لا يعرفنا ولا نعرفه.
وسيبقى الحبّ الحقيقيّ في كلّ العصور، ولكنّنا سوف نضطرّ للبحث عنه كلما تقدّم الزّمن، تحت أكوام النّفايات التّكنولوجيّة وآلاف الأقنعة وتحت مزابل العالم الّتي تتكدّس أكثر يوما بعد يوم، من حولنا، وفي قلوبنا وضمائرنا.