عادل بن عبد الله
في الجزء الأول من هذا المقال، كنّا قد بيّنا تأثير مفهوم “المؤقت” في بناء العقل السياسي لما يُسمّى بـ”العائلة الديمقراطية” في تونس. وكنا قد وضّحنا أن “المؤقت” لم يكن ينفصل عن الموقف من الإسلاميين من جهة أولى، ولم يكن ينفصل -من جهة ثانية- عن الموقف من ورثة المنظومة التجمعية الحاكمة قبل الثورة.
فبالنسبة إلى أغلب مكوّنات “العائلة الديمقراطية”، كان “المؤقت” يعني وجود النهضة في مركز الحقل السياسي (وقبول أحزاب علمانية بالتحالف معها في تجربة الترويكا، وإقامة علاقة شراكة معها، بدل علاقات التصادم والنفي المتبادل الذي ميّز العلاقة بين الإسلاميين وأغلب العلمانيين في عهد المخلوع بن علي). ولكنّ “المؤقت” كان يعني بالضرورة “غياب” التجمعيين أو “الأخ الأكبر” في العائلة الديمقراطية قبل الثورة وبعدها. وقد عمل “الديمقراطيون” منذ المرحلة التأسيسية على منع تقنين هذا “الغباب” أو تأبيده من خلال قانون العزل السياسي (وقد يكون الاغتيال السياسي جزءا من هذه الاستراتيجية، أو على الأقل خادما لها بصرف النظر عن علم “الديمقراطيين” أو موافقتهم الصريحة)، كما عملوا على تشكيل تحالفات سياسية ميتا-إيديولوجية؛ حملت الوعي الجماعي على استنكار “العزل السياسي”، وشرعنت خيار التطبيع مع ورثة التجمع، خاصة مع وريثه الأبرز، أي حركة نداء تونس.
ونحن على يقين من استحالة فهم الواقع التونسي في المرحلة التأسيسية وفي المرحلة التي سبقت انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية أو أعقبتها؛ إلا باستحضار معنى “المؤقت” (باعتباره مرادفا “للعابر”و”الطارئ” و”المباغت”)، وكذلك باستحضار ما يقابله من معنى”الدائم” (باعتباره مرادفا” للطبيعي” أو “البديهي” الذي لا مكان للإسلاميين فيه، إلا ملفا حقوقيا وموضوعا للقمع وتهديدا وجوديا “للنمط المجتمعي التونسي”). وهو ما يعني أنّ منطق “استمرارية الدولة” كان يعني واقعيا “فسخ” مرحلة الترويكا؛ بما هي جزء من تلك الاستمرارية، أو بما هي “معبر” بين الجمهورية الأولى والجمهورية الثانية. ولكنّ استمراية الدولة (من هذا المنظور الصدامي الإسلاموفوبي) كانت تعني أيضا “تبييض” حكم المخلوع ومنظومته، وشيطنة مرحلة “الترويكا” باعتبارها نقضا للدولة، وهدما لهيبتها.
ولا شك في أنّ مرحلة الترويكا لم تكن مرحلة “مثالية”، سواء من جهة التأسيس النظري أو الأداء، بحكم سياسة الأيادي المرتعشة من جهة أولى، وبحكم الاستضعاف الممنهج للحكومة من جهة ثانية. ولكنها رغم كل عيوبها كانت مرحلة “تقدمية” في تاريخ تونس: لأول مرة يكون صندوق الاقتراع (لا صناديق الموتى) هي الحكم في الصراع السياسي، ولأول مرة تعرف تونس توافقا طوعيا بين الإسلاميين والعلمانيين. ولذلك، كان من المفهوم أن تغصّ أغلب مكونات “العائلة الديمقراطية” بتجربة الترويكا، لا لأنها الأسوأ في تاريخ تونس، بل لأنها قد فتحت الحقل السياسي التونسي على آفاق قد تذهب بريح “الديمقراطيين” الذين أبانت الثورات العربية مقدار الهوّة بين ادعاءاتهم “الديمقراطية” ومحصولها الواقعي. فالديمقراطي “الجيد” ليس هو الذي يتموضع بالتقابل مع الاستبداد أو بالتقابل مع أحادية الصوت وثقافة الإقصاء أو الاستئصال، بل إن الديمقراطي “الجيد” هو ذاك الذي يتحالف مع النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة قبل الثورة لمحاربة “الإسلاميين” (بل لمحاربة استحقاقات الثورة ذاتها)، حتى ولو كانت كلفة ذلك التحالف هي الردة إلى مربّع الاستبداد والتبعية، أو الدفع بالبلاد إلى تخوم الاحتراب الأهلي.
لعل من أكبر المفارقات التي عرفها الحقل السياسي التونسي بعد الثورة، هي أن “الأب الروحي” لهذا الموقف الصدامي مع الإسلاميين، خاصة مع حركة النهضة، بل الأب الروحي للانسداد السياسي الذي طبع البلاد منذ تشكل الترويكا، هو السيد”أحمد نجيب الشابي”؛ الذي لا يختلف اثنان في مكانته النضالية زمن المخلوع بن علي، بل لا يختلف عاقلان في ما مثله حزبه من ملاذ سياسي وحقوقي للكثير من النهضويين ولغيرهم من المغضوب عليهم من النظام و”عائلته الديمقراطية”. فقد أعلن السيد أحمد نجيب الشابي، قبل ظهور النتائج، أنه لن يتحالف مع النهضة في حالة فوزها بانتخابات التأسيسي، وأعلن أنه سيكون في المعارضة. وهو بذلك يكون قد اعتمد مفهوما صداميا “للمعارضة”، والحال أن تونس كانت تعيش مرحلة تأسيسية من المفترض أن تشهد تعاون الجميع على سنّ القوانين والمؤسسات المنظمة؛ لحقل سياسي جديد يقطع مع منطق الاستعلاء الايماني والاستئصال العلماني على حد سواء.
بصرف النظر عن موقفنا من خيار النهضة دخول الحكم، رغم عدم امتلاكها لأسسه (الإدارة، الأمن، المال، الدعم الدولي، الإعلام، النقابات.. الخ)، وبصرف النظر عن الهشاشة التكوينية في تجربة الترويكا (بحكم غياب التأسيس النظري لها)، عمل احتلال النهضة لمركز الحقل السياسي على تغذية النزعة العدائية لدى النخب “العلمانية”، بمختلف منحدراتها الإيديولوجية. وقد نتج عن هذه العدائية حالة من الانسداد العام الذي طبع علاقة الترويكا بالأغلب الأعم من مكوّنات المجتمعين السياسي والمدني. وليس يعنينا في هذا المقام تحديد مسؤوليات كل طرف عن ذلك الانسداد، بل إن ما يعنينا هو عجز الأطراف جميعها عن اجتراح مخرج “توافقي”؛ إلا بعد أن بلغت البلاد مشارف الاحتراب الأهلي إثر اغتيال المرحومين شكري بلعيد والحاج محمد براهمي. وقد كان في استطاعة أي متابع جيد للشأن التونسي أن يجزم بأن حكومة السيد مهدي جمعة (أو ما سُمي بحكومة “الكفاءات”، وهي في الحقيقة حكومة “الإملاءات” و”السفارات”) لم تكن إلا مقدمة ضرورية لعودة الأزلام وحلفائهم إلى مركز السلطة بعد انتخابات 2014.
رغم بناء حملته الانتخابية على الدفاع على أساطير “النمط المجتمعي التونسي” في مواجهة “الظلامية” و”الرجعية” و”التطرف”، ورغم تكثيفه لنبرة العداء تجاه حركة النهضة لحشد قاعدته الانتخابية “الحداثية”، وجد زعيم نداء تونس، والفائز في الانتخابات الرئاسية، السيد الباجي قائد السبسي نفس – (بعد ظهور نتائج انتخابات 2014 – في وضعية تستوجب مراجعة مقولته الشهيرة: “النداء والنهضة خطان متوازيان لا يلتقيان”. فالنتائج أظهرت أنّ النهضة قد بقيت، رغم القصف الإعلامي المركز ورغم “قطّاع الطريق” والانتخاب المفيد، رقما صعبا في المعادلة السياسية (القوة الثانية بعد نداء تونس)، وهو واقع تعاملت معه القوى الدولية المتنفذة في تونس ببراغماتية كبيرة، ووافقت على انتهاج سياسة “التوافق” بين النهضة والنداء، لتضرب بذلك أكثر من عصفور بحجر واحد: فهي بإشراك النهضة في الحكومة، تضمن تحييد جزء كبير من الشارع التونسي في أية احتجاجات اجتماعية متوقعة، وهي توسّع القاعدة الجهوية والزبونية للنظام، دون الحاجة إلى تغييرات حقيقية في مستوى الخيارات الكبرى للدولة. كما أن وجود النهضة في الحكم سيكون عاملا لتكثيف “الإصلاحات التشريعية” التي لم يتجرأ حتى المخلوع نفسه على القيام بها، من مثل رفع التحفظات على اتفاقية سيداو، وبعض المبادرات التشريعية “المشبوهة”، والتي تزيد في انقسام المجتمع على أساس أيديولوجي، ولكنّ الفائدة الأعظم من دخول النهضة إلى الحكومة؛ هي إفراغ المعارضة من أية قوة حقيقية، وفسح المجال للجبهة الشعبية كي تكون قاطرة تلك المعارضة، وهي في الحقيقة جزء من منظومة الحكم أو على الأقل جزء من جهازه الأيديولوجي.
من المؤكد أنّ لخيار التوافق الذي ركنت إليه حركة النهضة (اضطرارا أو اختيارا)؛ انعكاسات هامة على قاعدتها الانتخابية، ولكنها انعكاسات لا يمكن الجزم بحجمها رغم كل الإحصائيات “المشبوهة” التي تملأ الفضاء العام. كما أنّ خيار التوافق سيجعل من الحديث عن ثبات القاعدة الانتخابية للنهضة أو للنداء؛ ضربا من الكلام المرسل. فالتوافق قد عمل على اهتراء القاعدتين الانتخابيتين التقليديتين لهذين الحزبين، ولكنه في الوقت نفسه قد يوجد لهما قواعد انتخابية جديدة. ولو حصرنا الحديث في حركة النهضة لقلنا (مثلما أكّد القيادي في حركة النهضة السيد لطفي زيتون) إنّ خيار “التوافق مع الدولة” هو فقط الخيار الاستراتيجي للحركة، فالنهضة لم تعد تطرح نفسها بديلا للنخب العلمانية بل شريكا لها، ولم تعد مضطرة للعمل ضد الدولة أو على هامشها بل تسعى إلى التحرك في صلبها. أما “التعايش مع النداء” داخل حكومة الوحدة الوطنية، فهو خيار مرحلي يمكن تجاوزه أو استبداله بتعايش مع أحزاب أخرى. بل إن خيار الدخول إلى الحكومة ذاته، وما يؤسسه من مخاوف مشروعة أحيانا من الاستئصال أو فسح المجال لليسار الوظيفي ليعود بالبلاد إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011، يحتاج هو الآخر إلى مراجعات رصينة، وبعيدة عن ضغط القواعد ورهانات الطامعين في وراثة زعيم الحركة.
ونحن نرى أنّ تلك المراجعات لخيار الحكم يجب أن تنطلق من الدور الحقيقي الذي أسندته “الدولة العميقة” لحركة النهضة، سواء أنظرنا إلى ذلك الدور من موقع ثوري أم من موقع إصلاحي. كما ينبغي على تلك المراجعات أن تنطلق من تقدير عقلاني لمخاطر الاستئصال، في ظل إرادة دولية لا يبدو أنها تريد “تَونسة” السيناريو المصري أو الليبي، ومن موازنة براغماتية بين منافع الوجود في الحكم ومفاسده بالنسبة للحركة وللبلاد كلها. ولا شك في أنّ التجربة المصرية قد أظهرت أن امتلاك “حكومة” وشرعية انتخابية وعمق شعبي؛ لا يعني بالضرورة القدرة على الحكم، كما أظهرت تلك التجربة أنّ حاجة الإسلاميين -في سياق ديمقراطي- إلى شركاء علمانيين موثوقين، وإلى حاضنة شعبية علمانية، قد تفوق حاجتهم إلى حاضنة شعبية إسلامية. وهو درس قد يكون على حركة النهضة أن تستفيد منه في إدارة علاقتها بباقي الفاعلين الجماعيين، وفي تحديد موقعها “الأفضل” داخل الحكومة أو خارجها بعد الاستحقاقات الانتخابية القادمة. بل قد يكون عليها الاستفادة منه حتى قبل تلك الاستحقاقات الانتخابية، ومراجعة موقعها داخل حكومة نيو-تجمعية تُسمّى مجازا حكومة “وحدة وطنية”.
عربي21