صالح التيزاوي
الحديث عن الشيّوعيّة متشعّب ومتنوّع كتنوّع الشّيوعيّة. إذ لا توجد شيوعيّة واحدة بل هناك شيوعيّات متعدّدة. أو لنقل توجد تطبيقات متعدّدة للشّيّوعيّة. فأيّ التطبيقات اختار الشّيوعيّون في تونس؟ أصحاب الفكر الشّيوعي في بلادنا لا يحبّذون هذه التّسمية ويفضّلون عليها مصطلح “يساري”. وذلك تحاشيا للنّقد الموجّه للشّيوعيّة من المعنيين بقضايا الدّين “فلاسفة اللاّهوت” من أنّها (الشّيوعيّة) فكر بلا أخلاق، وأنّها عارية من قيم التّديّن التي تعطي الإنسان بعدا روحيّا يحقّق له التّوازن.
أمّا اللّيبيراليّون والمنشغلون بالقضايا الحقوقيّة، فمن اعتراضاتهم عليها أنّها تنتهج سياسة قمعيّة وتؤسّس لنظام شمولي، ويستدلّون على ذلك بفشل الأحزاب الشّيوعيّة في تطبيق الدّيمقراطيّة عند استلامها للسّلطة.
(ضحايا لينيين وستاليين، يقدّرون بستّين مليون قتيلا). في تونس يوجد تيّار يساري عرف بمعارضته لنظام بورقيبة وبمناهضته للنّظام النّوفمبري الفاسد وبولائه للثّورة التّونسيّة واستحقاقاتها. وهو تيّار يقبل بالآخر ويقبل بالدّيمقراطيّة وبالتّداول السلمي للسّلطة ومنحاز للعدالة الإجتماعيّة. كما يقبل بالنّمط المجتمعي التّونسي وبما يشتمل عليه من قيم إسلاميّة. هذاالتّيّار المعتدل هو الذي يسمّيه الدّارسون في تونس “اليسار الإجتماعي”. ليس من أولويّاته ولا من أهدافه هدم القيم الإسلاميّة لأنّه يراها من ثوابت مجتمعنا ومن عوامل تقدّمه. فهو تيّار تونسي أصيل
يحظى باحترام واسع. صحيح أنّ منطلقاتهم كانت شيوعيّة ولكنّهم عدّلوا وصوّبوا وقاربوا بما يتلاءم مع طبيعة كلّ مرحلة وبما يتلاءم مع الخصائص الرّوحيّة للمجتمع التّونسي. وأغلب هؤلاء مستقلّون وينشطون خارج الجبهة الشّعبيّة.
أمّا الشّيوعيّة بمفهومها العتيق و”المحافظ” فتكاد تنحصر في حزبين “حزب العمّال” الذي تخلّص من مضافه “الشّيوعي” بعد انتخابات 2011 والتي لم يحصل فيها إلّا على مقعد واحد. حيث اعتبر حمّة الهمّامي الحذف جاء استجابة للأصوات النّقديّة التي يخيفها مصطلح الشّيوعيّة بمضامينه القديمة. وقدّر أنّ التمسّك بالمصطلح سيسبّب لحزبه متاعب كثيرة في مجتمع مسلم. وهي “مراجعات” لا تمسّ من جوهر “الماركسيّة اللّينيّة” التي تشكّل الخلفيّة الفكريّة للحزب. وأمّا الحزب الثّاني فهو الحزب المعروف اختصارا “الوطد”، عرف هذا الحزب بانقساماته الكثيرة بسبب الموقف من نظام بورقيبة ومن مسألة الإستقلال ومن طبيعة المجتمع التّونسي الذي يصفه أصحاب هذا التيّار بأنّه “شبه_شبه”، حتّى أصبح المصطلح عنوانا دالًا عليهم وإليهم تنسب “جريمة منّوبة: 1982″ فيما يعرف بـ”يوم السّكاكين الطّويلة” الذي استهدفوا به طلبة الإتّجاه الإسلامي، حيث اختار الرّفاق أن يواجهوا بالسّكاكين والسّلاسل والهراوات أمثالهم من أبناء الطّبقة الكادحة.
الحزبان ينشطان في إطار الجبهة الشّعبيّة. لعلّ القاسم المشترك بينهما أنّهما يؤمنان إيمانا راسخا بأن النّسخة “اللّينينيّة الستالينيّة” هي أفضل تطبيقات الماركسيّة. وقد استقرّ في عقيدتهم أنّ “العنف الثّوري” هو الطّريق الأوحد إلى إحداث التّغيير الماركسي المنشود. ويرفضان رفضا قاطعا إدخال تغييرات على معتقدهم بما يناسب التّطوّر وبما يناسب مرحلة ما بعد الثّورة وبما يناسب النّمط المجتمعي التّونسي. ولعلّ ذلك ما يفسر الشّعار الذي رفعه حزب العمّال في مئويّة الثّورة البلشفيّة: “الإشتراكيّة هي الحل” ممّا جعل أصحاب هذا التّوجّه ينعتون بـ”اليسار الأورتودوكسي” ويصفهم آخرون بـ”اليسار السّلفي” لكونهم يرفضون التّجديد والقيام بمراجعات تصالحهم مع مجتمعهم كما فعل اليسار في أوروبا الذي قبل بقواعد الدّيمقراطيّة وأصبح يناضل من داخل قلاع الرّأسماليّة من أجل التّخفيف من وحشيّة الرّاسماليّة وآثارها على الطّبقات العمّاليّة، وأصبحنا نرى قيادات يساريّة تجلس إلى نفس الطّاولة مع زعامات دينيّة مسيحيّة وأخرى ليبراليّة في إطار عقد اجتماعي مواطني وديمقراطي.
هل يقدم الحزبان المذكوران على مراجعات جدّيّة تفتح أمامهما فرصة تاريخيّة للإلتحاق باليسار المجدّد ويقطعون مع المرجعيّات والتّجارب الدّمويّة؟
الجبهة الشّعبيّة: متى تلتحق باليسار المجدّد ؟

صالح التيزاوي