في ذكرى شهداء 24 جانفي 1963: “بورقيبة يا مجرم” !

أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
ربما تكون التصفيات التي استهدفت عددا من المناضلين فيما يعرف بمحاولة انقلاب ديسمبر 1962 من ابرز الفصول المثيرة (والفضيعة) التي طبعت جرائم النظام البورقيبي في بدايته.
ورغم مرور 55 عاما ونيف على تلك الوقائع -التي ادت في فجر يوم الخميس 24 جانفي1963 (يومان قبل شهر رمضان من سنة 1382) الى اعدام خمسة من العسكريين (عبد الصادق بن سعيد وكبير المحرزي وعمر البمبلي وصالح الحشاني ومحمد الحبيب بركية) وخمسة من المدنيين (الازهر الشرايطي وعبد العزيز العكرمي واحمد الرحموني والهادي القفصي ومحمد الحبيب حنيني)- الا ان اسرار تلك الوقائع لازالت الى اليوم في عالم الغيب بسبب التغطية على حقائقها وعدم السماح بالاطلاع (حتى للباحثين) على الارشيف الامني والقضائي.. المتعلق بمحاكمة “الايام الستة”! من قبل المحكمة العسكرية وما رافقها واعقبها من ممارسات التعذيب التي طالت الاحياء و الاموات.
ولعل بقايا الذكريات التي كشفها احد الناجين من مقصلة بورقيبة -بعد صدور عفو خاص لفائدته يوم تنفيذ الاعدامات الجماعية- تمثل (ربما) الشهادة المباشرة الوحيدة عن ظروف التنفيذ فجر ذلك اليوم المرعب!.
وفي هذا يورد المنصف الماطري (احد رموز العائلة المالكة ووالد صخر الماطري) في الجزء الاول من كتابه المطول الصادر بالفرنسية تحت عنوان “من سان سير إلى مقصلة بورقيبة” ” De Saint-Cyr au peloton d’exécution de Bourguiba” (مطبعة نقوش عربية 2014 -664 صفحة):
“كنا اثني عشر في ممر الموت: العسكريون عبد الصادق بن سعيد وكبير المحرزي وعمر البمبلي وصالح الحشاني ومحمد بركية وحمادي قيزة (هو محمد بن بلقاسم قيزة العسكري الثاني الذي تم صدور عفو خاص لفائدته) وانا بنفسي والمدنيون الازهر الشرايطي وعبد العزير العكرمي والهادي القفصي والحبيب حنيني واحمد الرحموني.
وفجاة ابقظتني صيحات الاستغاثة وقد تعرفت على صوت الازهر الشرايطي: “مش ممكن ضحيت بكل شيء من اجل بلادي!. اه يا ولادي! سيبوني يا امجرمة !”. تصفيق الابواب ثم سكون. ادركت انهم بداوا يجرون المحكومين. بعد ربع ساعة يتكرر نفس المشهد لكن هذه المرة بصخب اقل. كنت واجما. اكاد لا اصدق انهم يجرونهم لكي يعدموهم.
كنت اعتقد اننا سننتفع باقتراب شهر رمضان وان الاعدامات ستتاجل. وطيلة ساعتين او اكثر كانت نفس اصوات المفاتيح وتصفيق الابواب تتكرر على فترات منتظمة لكن كل محكوم (من بينهم) كان يرد بطريقة مختلفة.
لقد تعرفت على بعض الاصوات وكان احد المساجين يكرر القول: “الله اكبر الله اكبر الله اكبر!” في حين كان الاخر يصيح: “مانيش لاول ولاني لخر! (لست الاول ولن اكون الاخير!) بورقيبة يا مجرم!”. وكانت اصوات اخرى ترتفع ايضا “موعدنا عند ربي. نستناك يا بورقيبة” “تحيا تونس”. بعضهم يناديني باسمي ويذكر الاخرين وهو يصيح “تشجعوا ربي معانا !” ثم ينزل السكون ثانية…” (المرجع المذكور ص205-206).
كانت هذه اخر الكلمات قبل اعدامهم بالرصاص (تقبلهم الله شهداء!).
وقبل ساعات من التنفيذ ابدلت عقوبة الراوي (منصف الماطري – مولود في 1934) بالاشغال الشاقة المؤبدة وذلك بتدخل من عمه محمود الماطري و”الماجدة” وسيلة بن عمار ثم تم العفو عنه في جوان 1973 بعد ان قضى 11 عاما بسجون بورقيبة قبل ان يظهر بعد ذلك في قصور بن علي!.
وبعد عشر سنوات ونيف من تلك الصيحات البعيدة: “بورقيبة يا مجرم”! يعترف هو نفسه (مثلما اعترف باغتيال المرحوم صالح بن يوسف في 12 اوت 1961) بان “تنفيذ حكم الاعدام فيهم في عام 1963 قد تم في ثكنة الحرس الوطني بمحضر صلاح الدين بالي وكيل الجمهورية ومحجوب بن علي امر الحرس الوطني. وكان احد الضباط قد اطلق الرصاص على احد المحكوم عليهم بالاعدام الا انه لم يمت في الحين. وتقدم محجوب بن علي واجهز عليه !” (المحاضرة 9 من سلسلة المحاضرات التي القاها الحبيب بورقيبة بمعهد الصحافة وعلوم الاخبار في 15 ديسمبر 1973).
ومحجوب بن علي (1926- 1999) هو من اعوان بورقيبة المخلصين ممن لعب ادورا سيئة في تاريخ البلاد، واشتهر بممارسته للقتل والتعذيب وقمع المعارضين!.
اما عن المحكوم عليه فقد افادت مصادر عدة ان الواقعة تخص احد العسكريين وهو الشهيد اليوزباشي (رائد) عبد الصادق بن سعيد (1921 -1963) المولود بقبلي والقاطن بباردو وكان مكلفا بالخيالة والدبابات بالعوينة.
وعن هذه الحادثة علم المنصف الماطري بعد الانقلاب على بورقيبة ان “عبد الصادق بن سعيد لم يمت لا في التنفيذ الاول ولا في الطلقة الاولى بل تقرر القضاء عليه في طلقة ثانية!”.
وينقل بحذر ان ذلك كان”بامر من كاتب الدولة للرئاسة ووزير الدفاع الباهي الادغم الذي تمت مراجعته في الحين” (المرجع السابق ص227).
ما في ذلك شك، لم يكونوا كاذبين! : بورقيبة يا مجرم !

Exit mobile version