Site icon تدوينات

هل هناك عدالة في الأجور بين الموظفين ؟

المبروك الشيباني المنصوري

المبروك الشيباني المنصوري

المبروك الشيباني المنصوري

هل فعلا كتلة الأجور هي الأعلى في العالم ؟
في رد سريع جدا من البنك الدولي على المقال الذي نشرته صحيفة الغارديان البريطانية وحمّلت فيه المسؤولية للبنك بأنه “عبث بأحلام التونسيين ودفعهم إلى الشارع”، أجاب البنك بنفس المبررات التي كان يؤكّدها منذ سنوات وهي “كتلة الأجور هي الأعلى في العالم”- ويكررها وراءه الإعلام التونسي دون تحليل أو نقد مُرجعا ذلك إلى مزايدات من قبيل “الانتدابات العشوائية” و”العفو التشريعي”.

والواضح أنّ عبارة البنك الدّولي دقيقة جدّا، فهي تتحدّث عن “كتلة الأجور” لا عن عدد الموظّفين، ذلك أنّ نسبة عدد الموظفين العموميّين إذا قورنت بعدد الشعب، وبنسبة القوى العاملة فيه تبدو منطقية جدا بالمقاييس العالمية، والإحصائيات متوفرة على النت لمن يريد أن يقارن بعدد من الدول شرقا وغربا. فما السبب في “ارتفاع” كتلة الأجور إذا كان عدد الموظفين عاديا؟

السبب يدركه البنك الدولي جيّدا وتدركه الحكومة واتّحاد الشغل، ولكن لا أحد يثيره، والجميع يتجنّبه لأنه خلل هيكليّ تصعب معالجته في وضع انتقاليّ هشّ. وأوّل الأسباب المباشرة لارتفاع كتلة الأجور ولعجز الصناديق الاجتماعيّة هي سياسة الحكومات المتعاقبة منذ عقود. فعدد كبير من أصناف الموظفين في الإدارات العموميّة يتقاضون أجرا سنويا يتراوح بين 14 و18 شهرا.

وهذا يعني عمليا كل 2 موظفين يتقاضون مرتب 3 موظفين عموميين. هذا طبعا دون احتساب الامتيازات الأخرى مثل قصاصات الأكل التي قد تصل إلى أجر شهر إضافيّ سنويا، وباقي الامتيازات منها عدم الاقتطاع من مرتبات كثير من الموظفين بعنوان التقاعد. وتقاعدهم على حساب غيرهم. ويحصل هذا بنسب متفاوتة مع موظفي الصناديق الاجتماعية والبنوك العمومية والاتّصالات وعدد كبير من أصناف الموظفين الآخرين الذين يتقاضون بين 14 و 18 مرتبا في السنة، وإن كان في شكل منح وامتيازات.

وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ كتلة الأجور تتحمّل أعباء إضافيّة لصنف آخر من الموظفين الذين يتمتعون بما يسمى “امتيازات القطاع” مثل عدم دفع معلوم استغلال المياه أو الكهرباء والغاز أو النقل، أو الاتّصالات، وغيرها. وهذا الإجراء المخالف لمبدإ العدالة بين الأجراء يساهم بشكل مباشر وكبير في إثقال ميزانية الدولة ورفع كتلة الأجور. وفي المقابل نجد مهنا شاقة يتقاضى موظفوها مرتبات ضعيفة جدا لا تكفيهم حاجياتهم الأساسية، ولا توجد في قطاعهم أية امتيازات استثنائية مثل التعليم والجيش وغيرهم.

وهكذا نجد أنّ متخرّجيْن من نفس الكلية وبنفس الشهادة في الإعلامية مثلا: أحدهما يتقاضى أجر 17 شهرا ولا يُقتطع من أجره لتقاعده، ويحصل على تقاعده كاملا، فقط لأنه توظّف في أحد الصناديق الاجتماعية أو أحد البنوك، بينما زميله الأستاذ أو المعلّم بنفس الشهادة لا يتقاضى سوى أجر 12 شهرا وبعض المنح الزهيدة.

هذا هو السّبب الذي جعل البنك الدولي يتحدّث عن “كتلة الأجور” تحديدا، لا عن عدد الموظّفين، والجميع يدرك أنّ التأجير غير العادل لبعض أصناف الموظّفين، والامتيازات الاستثنائيّة لبعض القطاعات -التي منحت بسبب بعض الضغوط والترضيات التي حدثت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من عمر الإدارة التونسية على حساب غيرهم- هي الّتي جعلت هذه الكتلة ترتفع.

وبدل أن تتّجه الدّولة إلى معالجة هذا الخلل الهيكلي وغير الدّستوري عبر مراجعة دقيقة للأجور وربطها بالشهادة العلمية التي تحدد مستوى الموظف والذي بناء عليه يكون تأجيره دون تمييز غير علميّ وغير مدروس بين القطاعات، اتّجهت إلى حلول جزئيّة مثل الرفع في سنّ التقاعد وسدّ باب الانتداب وغيرها من الإجراءات الجزئيّة والمحدودة -وإن كانت لها مبرّراتها في سياق الوضع الانتقالي الذي تعيشه البلاد- فإنّها لن تؤدّي إلى حلّ المشكل المطروح وفي إرساء “عدالة تأجيريّة” على غرار “العدالة الجبائيّة” المتعثّرة.

Exit mobile version