الحركات الشبابيّة وحيوية اليسار في تونس

زهير إسماعيل

من الظواهر المهمة الجديدة في مشهدنا السياسي مجموعات شبابية منظمة وفاعلة، في أغلبها، تنتمي إلى التيار الماركسي بروافده الستالينية والماويّة والتروتسكيّة والفوضوية. وضعتُ عبارة يسار بين مزدوجتين لضعف إجرائية ثنائيّة يسار/يمين، من ناحية، ولمعطى اجتماعي يشير إلى أنّ يسار الفكر اليوم لا يوجد على يسار الحركة الاجتماعية، من ناحية أخرى. وهذه نقطة خلافية لا نريد أن تصرفنا عن الأصل ويتمثّٰل في الوقوف على الظواهر الشبابية الحديدة اليوم والتي تنطبق عليها مواصفات الحركة الاجتماعيّة.

وهذه الظواهر كلّها تقريبا من أصول ماركسية، فهي إمّا مرتبطة بحزب العمال والوطد أو بالمجموعات الثورية من التروتسكية إلى الفوضوية. ولم يتح لنا قراءة أدبيات حقيقية لهذه المجموعات ولفت انتباهنا إليها حيويتها الميدانية فيما تعرفه بلادنا من انتقال مهم، غير أنّها ظواهر في المركز وفي علاقة بالدولة وتكاد تكون مدينية. وقد يكون لمجموعة جيل جديد بعض العمق النظري الذي يجعل منها حركة فكر أكثر مما هي حركة اجتماعية، في حين تبدو “مانيش مسامح” وهي الحملة التي ارتبط ظهورها بقانون المصالحة الاقتصادية، أقرب إلى الحركة الاجتماعية، وتأتي حملة “فاش نستنّٰاو” حركة شبابية ميدانية في مواجهة قانون المالية، مع منسوب أعلى التأدلج مقارنة بغيرها، رغم تداخل الظواهر والحركات التي ذكرنا من جهة عناصرها المكونة، ونعني أنّٰ عناوين “مانيش مسامح” و”فاش نستنّاو” ليست جدرانا عازلة لمجموعات مختلفة، ونعني أنّٰ من هو في “مانيش مسامح” قد يكون منحدرا من جيل شارك في حملة “فاش نستنّاو”، ويلاحظ أنّٰ درجة الأدلجة تتأثّر بالموضوع (مواجهة قانون المصالحة، أو قانون الميزانيّة،،،الخ).

ما يهمّنا من كل هذا ليس هويّٰة المجموعات فهذه مهمّة المختصّين في الظواهر الشبابية والحركات الاجتماعيّة. ولا يهمّٰنا أيضا مرجعيّة هذه المجموعات، وإنّٰما الذي يهمنا هو ملاحظة أنّٰ هذه الحيوية التي تكاد تقتصر على الشبيبة “اليساريّة”. والتي لا نجد لها نظيرا في العائلة القومية ولا الإسلامية ولا الليبراليّة. وتكتفي الأحزاب المذكورة بفتح فروع خاصة بالشباب، فتتردّد عناوين مثل “شباب حركة النهضة”، او “شباب حركة الشعب”،،،الخ. وهو ما يذكّر بعناوين شباب الأحزاب الحاكمة في الدكتاتوريات العربية ومنها “شباب التجمع”. وقد تمثّل “روابط حماية الثورة” حالة خاصة، وقد تشكلت في أغلبها من شباب الأحياء الفقيرة في المركز، وفِي الداخل غلب عليها المكون القومي والإسلامي، وتركز دورها على موضوع اللاجئين من ليبيا، ولكن سرعان ما تمت شيطنتها حين تصدّت للجديد العائد وقبل أهلها بهذه الشيطنة وتم حلها.

الأحزاب الديمقراطيّة الاجتماعية لم تفرز “ظاهرة شبابيّٰة حقيقية”. وباستثناء شباب اليسار الماركسي، فإنّ أغلب شباب الأحزاب الأخرى كالنهضة والشعب والتيار والحراك قد تمّٰ تسليمه إلى “مراكز التكوين” وهي أوروبية في معظمها وتجتهد في أن تكون “التنمية البشرية” بديلا عن الإيديولوجيا”.

غضة ولم تظهر نصوص تأسيسية متينة للانتفاض المواطني الاجتماعي الحاصل، ومازال الأمر شتاتا من جمل سياسية وفكريّة وشعارات هنا وهناك. ولم يُنتبه إلى ما تعرفه البلاد من انقسام اجتماعي مازال يوجه الحركة الاجتماعية. وهو انقسام يدفع إلى اعتبار أن للمركز يساره وللهامش المفقّر الاجتماعي يساره رغم ميلنا إلى اعتبار الهامش المفقّر المنتفض يوما هو “اليسار الاجتماعي الجديد”.

ومن ناحية اخرى، يبدو أنّٰ تحصيل معظم قيادات التيار الاجتماعي الديمقراطي النظري وتجربتها السياسية الاجتماعية لا يسمحان بالتكوين المطلوب، بل إنّ كثيرا من قيادات الصف الاول في هذه الاحزاب لم يعرفوا “السياسة” إلاّ بعد الثورة.

عمر الجيل اليوم صار، بفعل الثورة الاتصاليّة، عشر سنوات. وحتّى ما أسميناها بـ”الشبية المعولمة” والتي تتوزّع على ظواهر تبدو متنافرة (الفيراج، التيار الجهادي، عبدة الشيطان، الحركات الاجتماعية الشبابية) فإنّها لم تقطع مع الإيديولوجيا كما يتوهم البعض. وما نراه أمامنا من حركات اجتماعية (مانيش مسامح) يشير إلى تواصل دور الإيديولوجيا وأهميّة الأنساق الفكريّة في تكوين الوعي وتمكين الفرد من رؤية للعالم والظواهر والقيم. فالإيديولوجيا، على علاتها ضرورية لبناء الحلم، وأهم مضادّات لـ”الضحالة”.

“اليسار” التقليدي موجود في المنظمات الاجتماعية والحقوقية، وفي البرلمان والحكومة،،،الخ، ولكن نبتت في محيطه ظواهر شبابية كفاحيّة وحركات اجتماعية تشير إلى أنّٰه يعيش حيوية، وهذا ما يغيب عند القوميين والإسلاميين (هل لوجود النهضة في الحكم تأثير، ضعف الحوافز عند طلبة حزب حاكم أو يشارك في الحكم؟). ففي السبعينيات والثمانيات كانت حيوية الشبيبة في العائلات الفكرية الأساسية القومية والإسلامية والماركسية، يوم كانت لها قيادات تحمل فكرا وتغامر في عالم الأنساق.

هذا الذي نكتبه ليس فرضيّة بحث، ولا وجهة نظر، فضلا عن عدم الإلمام بكل الظواهر، وإنّٰما هي ملاحظة من خلال ما تزخر به حياتنا السياسية الجديدة، والخشية أنْ يكون منسوب “وعي الحرية” متدنيا، وقد يكون في هذا موقفا معياريا، ولكن إشارتنا تلمح إلى أنّٰ هذه الظواهر الشباية والحركات الاجتماعية إذا لم يكن “وعي الحرية” موجِّها قد تسقط في الإرادوية المدمرة وتُحمل على لعب أدوار متضاربة، وقد تعيد خطأ سلفها فترث عجزه عن “تعريب” نصّه المرجعي إلى الثقافة الوطنيّٰة.

تعليق الأمين البوعزيزي
أخي زهير: عميق ما انتبهت إليه وحولته إلى مسألة جديرة بالتعميق النظري. فقط وجب تنسيب بعض التعميم. “مانيش مسامح”: مكونها الرئيس يضم شباب جيل جديد وحركة شباب الكرامة سابقا (هؤلاء قوميون عصمتيون). وتضم لبراليين إجتماعيين ويساريون فكوا الارتباط التنظيمي باحزابهم ولا تتفجأ بشبيبة من روافد أخرى (عندما تحول هذا النص إلى مدار أكاديمي سأضع بين يديك معطيات فارقة في الأهمية).
حملة “فاش نستناو” فيها مكونات ماركسية وقومية ناصرية وبعثية وفيها حراكيون وتيار.
زهير إسماعيل
أخي الأمين
مهم ما أضفتَ، وإن كانت غايتي الأساسية كانت لفت الانتباه إلى الظاهرة، وألزمت نفسي بعدم التوسع لأنّ في الموضوع تفصيلات لا يتسع لها بوست محدود.
وأمّٰا عن كون حملة “فاش نستناو” فيها مكونات ماركسية وقومية وناصرية وبعثية وفيها حراكيون وتيار ديمقراطي، فهي ملاحظة معقولة ومقبولة ومنتظرة، فضلا عما عندي من معطيات قريبة منها ولكن أورد الملاحظتين التاليتين:
وجود مكونات قوميّة وبعثيّة لا يمنع من وجهة نظري غلبة النكهة الماركسيّة على التوجه، وهذا مفهوم وليس بجديد، فقد عرفنا شيئا شبيها به في الجامعة في الثمانينيات. مع تسجيل فوارق نوعية بين البعثي والناصري رغم علاقتهما السياسية بالماركسي (البعث: نتيجة للتأثير الماركسي داخل العائلة القومية، والوطد: نتيجة للتأثير القومي داخل العائلة الماركسيّة، أمّٰا الناصرية فهي أقرب إلى أن تكون إحدى تعبيرات الإسلام السياسي: التيار العصمتي، عروبية أكثر مما هي قوميّة).
إضافة الحراك والتيار الديمقراطي، قد لا تسعفنا، وأنت اللبيب: فمثل هذه التكوينات السياسية “ما فوق إيديولوجية” لا تمثّٰل “هوية ايديولوجية”، لذلك نضطر إلى معرفة “الشريحة الأم” للمنتمي إليها، فقد يكون إسلاميا أو قوميا أو ماركسيا، واقدّر أنّٰ أغلب من ينظم إلى مثل هذه الحملات يكون في الأغلب ماركسيا بمعنى من المعاني أو إنسانا عاديا ليس له مائزة إيديولوجية. فضلا عن أنّٰه داخل هذه الأحزاب لا توجد حركيّة فكر وملامح يوتوبيا وقيادات فكرية تشد اليها شريحة الشباب خاصة. لذلك تجد فروع للشباب والمرأة في هذه الأحزاب. وحتى ان غابت فالضعف تنظيمي.
الاتجاه العام لهذه الظواهر الشبابية مازال تغلب عليه نكهة خاصة، وقد تعرف تغيرات في المستقبل…

Exit mobile version