القوميُّون والماركسيون في الجبهة الشعبية: كيف شنق الشّيوعيُّون 5 آلاف بعثي ؟
سليم الحكيمي
تَضمّ الجبهة الشعبية التي تاسست سنة 2012، 10 او 11 حزباً وتجمعاً يسارياً وقومياً علمانيا. عدد نوابها في البرلمان 15 اي بمعدل 1.5 مقعد لكل حزب. واشهر مكوناتها المتبقية بعد انسحاب 4 منها: حزب العمال، الوطنيون الديمقراطيون، والوطنيون الديمقراطيون (وطد) بقيادة جمال الأزهر، حزب الطليعة العربي الديمقراطي، حركة البعث، حزب تونس الخضراء، الحزب الشعبي للحرية والتقدم، التيار الشعبي، شقّ مباركة. وما يلفت الانتباه هو التحالف القومي والبعثي مع المكون الشيوعي، عمودها الفقري.
يرشح التاريخ بالدماء والأشلاء بين الشيوعيين والقوميين بفصائلهم المختلفة. سحق جمال عبد الناصر الحزب الشيوعي في الخمسينات والستينات وملأ بهم الزنازين، وفي اليمن الجنوبي سحق الحزب الشيوعي القوميين ليكونوا عبرة لمن يعتبر. ولكن تاريخ العراق هو الأفظع في علاقة القوميين بالشيوعيين والفتك والدموية بين أعضاء الحزب الواحد، والسفك المتواصل بين الرفاق. ومن أقرب الأمثلة إعدام صدام لرفيقه ووزير دفاعه حردان التكريتي وأعوانه. وهو ما حصل بين الرّفاق الشيوعيين في عدن عاصمة اليمن سنة 1986م بين أتباع عبد الفتاح إسماعيل، وأشياع علي ناصر محمد. فبعد نجاح تنظيم الضباط الوطنيين “أو الأحرار” في العراق في الإطاحة بالنظام الملكي وتحويله إلى جمهوري في 1958. بدأت بوادر الخلافات بين الأحزاب السياسية، حيث كانت القوى القومية بزعامة العقيد عبد السلام عارف وحزب البعث تنادي بالوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة. كان الحزب الشيوعي العراقي معارضًا وطرح فكرة التعاون مع الجمهورية العربية المتحدة في المجالات الاقتصادية والثقافية والعلمية بدلا من الوحدة السياسية والعسكرية الشاملة. وبدا الصراع مع عبد الكريم قاسم بسبب بعض الإجراءات التي اتخذها كتفرده في السلطة وفرضه لهيمنة العسكر والحزب الشيوعي على الوزارة والسياسة العراقية، حيث منح صلاحيات واسعة للتيارات اليسارية من الشيوعيين المعارضين لتطبيق الأحكام الإسلامية في القانون العراقي والذين كانوا وراء إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي شجبته المراجع الدينية.
البعث والشيوعيون حزبان كانا قد تسيّدا الساحة السياسية في ستينيات القرن الماضي، وسالت الدماء أنهارا بينهما وأُترعا بالانتقام. ويذكر هاني الفكيكي القيادي البعثي في كتابه “أوكار الهزيمة، تجربتي في حزب البعث”: لقد قرن الشيوعيّون البعث والاستقلال بالنازيّة والفاشيّة والإقطاع وأذناب العهد الملكي وأعداء الوطنيّة العراقيّة وعملاء جمال عبد الناصر. وأدّى خوف عبد الكريم قاسم من زعامة عبد الناصر إلى الإمعان في تمتين صلته بالشيوعيين. وفي خضمّ هذا الصراع على السلطة انساق الجميع، بلغ ذروته مع حركة عبد الوهاب الشوّاف من الضباط الاحرار سنة 1959، والتي سبقها غليان في الشارع القومي من جرّاء إطلاق يد الشيوعيين، وانكماش الدور العربي للعراق”. حيث علّق الشيوعيّون المتحالفون مع عبد الكريم قاسم حوالي 5000 من البعثيين والقوميين على اعمدة الكهرباء. وانتقلت أعمال القتل والسّحل الى بغداد وسائر المدن. وكذلك قضت محكمة المهداوي الشّهيرة بإعدام عدد من الضبّاط القوميين. وغرق العراق في بحيرة الدم. ص 94 .. بل جعلوا من جماجم البعثيّين منافض للسجائر. ومثل هذا العنف المفتوح والثأري تكرر في 8 فيفري حين حصل البعث على السّلطة سنة 1963. فقد ذكر ماريلُون فاروق سلُوغْت في كتابه من الثّورة الى الدّولة: “شهدت الأشهر ما بين شبّاط وتشرين الثّاني أكثر المشاهد رعبا من العنف الذي جرى بعد الحرب العالمية الثانية في الشّرق الأوسط كله. لقد اُقترفت أفعال من العنف المنفلت والقسوة العابثة من قبل البعثيّين وأعوانهم لدرجة لا يمكن للمطالبة بالثأر لأحداث الموصل وكركوك 1959 أن تبررها بأي شكل كانَ” ص 125. وفي كل الأحوال تبادل الشيوعيون والقوميون موقع الجلاد تارة وطورا موقع الضحية، فكان الثأر والوتر. هذا التاريخ الدموي لا تريد قيادات شيوعية او بعثيّة أو قومية أن تُطلع عليه قواعدها. بل تمارس عليهم اسلوب التّعمية. لان الحقائق ّذا تجلّت قد تغيّر وجهة الكثيرين من اصحاب العقول السّليمة.
غياب الوعي التّاريخي
ما يغيب عن القوميين واليساريين ان الاسلاميين لم يكونوا يوما جلاّديهم، بل ضحاياهم. ولا أريد أن انكأ جراحا قديمة ولكن يعرف الجميع ما فعله عبد الناصر بالإخوان في سجونه، وأن أول جريمة اقترفها صدام حسين كانت قتله أمير جماعة الإخوان في العراق بشهادة حامد الجبوري وزير خارجيته في برنامج “شاهد على العصر”. وأول مجزرة بشعة في الدّولة العربية الحديثة، كانت مجزرة حماه المريعة للنظام البعثي في سوريا ضدّ تنظيم الإخوان رغم شجبه لتهور الشباب ضد الدولة. ورغم ذلك التّاريخ الآثم، كان الإسلاميون أوّل من تعالى على جراحه الغائرة. ينحني البعثيون والقوميون للشيوعيين في الجبهة ويرضون بالسير في ظل جلاديهم ولكنهم لا يعتذرون للضحية.
ما زال شق واسع من اليسار يفكّر خارج منطق الدولة، قوة هدم وليس بناء، بعد فشل تجربته على الصعيد التاريخي حكما ومعارضة. جورج بليخانوف 1856 – 1918، مؤسس الحركة الديمقراطية الاجتماعية في روسيا، قال يوما “قد تصف الربيع.. ولكنه حين ياتي لا تتعرف عليه”.. جاءت الثورة ولم يتعرف عليها الرفاق… فتحالفوا مع جلاد الامس. هم وراء تراجيديا الخراب بعد الثورة ليواصلوا مغالطة ثلاثية الابعاد:
1. ما يجري ليس اعتراضا على اداء الاسلاميين في الحكم، بل اعتراض على وجودهم اصلا.
2. الوضع المزري للميزانية تسببت فيه الجبهة بـ 36 الف اضراب استعملت فيها النقابة اداة لهدم الدولة وافقدت البلاد 8 الاف مليار.
3. تُعرّف الجبهة نفسها بانها ائتلاف سياسي لتحقيق اهداف الثورة، ولكنها حققت اهداف التجمع في العودة الى الحكم في اعتصام الرحيل اوت 2013 والانقلاب على الشرعية. ولا فائدة الآن في شعار “النداء والاخوان شركاء في العدوان” ومحاولة استرجاع عذرية سياسية قد افتضها سُراة الليل من التجّمع صائفة 2013. واعمتها الرغبة من جديد في استئصال الاسلاميين من جديد ولكن انقلب السحر على الكاهن. يقول هاني الفكيكي: “إن حمل السلاح وانتزاع الحكم وفرضه على الآخرين يحتاج إلى شجاعة، لكنها تبقى دون مستوى شجاعة مواجهة النّاس ومصارحتهم بالأخطاء والجرائم السياسيّة”.