عبد اللطيف علوي
أسفر الصّبح بطيئا يتحسّس العالم بين كسف السّواد الثّقيلة، بعد ليلة طويلة لم ينم فيها إلاّ القليل.
ليلة الخديعة الكبرى، ليلة لن أنساها ما حييت، كانت آخر محاولة في جعبة السّفّاح، وآخر رمية يرميها السّحرة في وجوه الغافلين.
استمعنا إلى خطاب بن علي، وكم كان مربكا وعاطفيّا، في شعب تعوّد أن يصدّق دموع التّماسيح ويبتلع الطّعم مرّة تلو مرّة، دون أن يتعلّم الدّرس، منذ أيّام بورقيبة، كان المقبور يحلّ أسوأ الأوضاع والأزمات بخطاب حماسيّ مؤثّر، يذرف فيه دمعتين، وينتهي كلّ شيء.
ليلتها، سادت لغة الصّمت بيني وبين فدوى، وكنّا نعرف أنّ الدّقائق والسّاعات القادمة ستحدّد مصير البلد. حيرة وانتظار وغصّة محفورة في الحناجر، كانت أيّة صرخة شجاعة أو كلمة خذلان يمكن أن تغيّر مسار الأحداث في تلك السّاعات الرّهيبة، المليئة بالشّكّ والخوف والتّرقّب.
ولم يتأخّر الرّدّ…
لم تمض إلاّ دقائق حتّى قطع التّلفزيون الرّسميّ برامجه ليربط مباشرة بشارع الحبيب بورقيبة، حيث كان المئات يهتفون ويهلّلون ويرقصون استبشارا بخطاب الرّئيس، وسيّارات “اللّوكاسيون” تصدح بمنبّهاتها احتفالا بحكمة سيادته، المخلّص دائما كما كان قبل عشرين عاما.
وتواصلت التّصريحات الّتي تثمّن ما ورد في كلمته من قرارات الانفتاح والتّغيير ووعود الشّفافيّة والمحاسبة، نفس الوعود ونفس الشّعارات ونفس الخدع الّتي جاء بها خطاب السّابع من نوفمبر سنة سبع وثمانين، خطاب الانقلاب السّعيد، وكأنّ التّاريخ لم يغادر مكانه.
كان السّؤال الأقسى والأمرّ: هل يعقل أن ينجح الأمر مرّة أخرى؟ هل يعقل أن نكون شعبا سفيها ورخيصا وبلا ذاكرة إلى ذلك الحدّ؟ هل يمكن أن ننسى كلّ تلك الدّماء الّتي ما زالت لم تجفّ، في تالة والقصرين والرقاب وبوزيان وحيّ التّضامن والكرم وفي كلّ شبر مرّت به الثّورة؟ وهل يمكن أن ينتصر الجلاّد على “عامر الصّالحي” مرّة أخرى ويذبحه من جديد بخناجرنا، نحن الّذين حلمنا لأيّام بأنّ الحياة يمكن أن يكون لها لون آخر وطعم آخر؟
ما أسوأ أن تكون دائما على صواب!
لا أعرف من أين خرجت كلّ تلك المخلوقات العجيبة لتهتف بحياة سفّاحها المعبود، لكنّ الأمر كان واضحا فاضحا، كانت البلاد خاضعة لحظر التّجوّل، وكان واضحا أنّ حزب الرّئيس هو الّذي أعدّ تلك المسرحيّة الهزيلة. وعلى الشّاشات تجمّعت جوقة من المنافقين وكلاب الدّعاية، في حلقة تلفزيّة أعدّ لها صهره الطّرابلسيّ شخصيّا، لمحاولة إقناع النّاس بأنّ كلّ شيء سيتغيّر غدا ببضع كلمات سحريّة من بن علي، وسيصحو الشّعب فيجد نفسه في بلد جديد لا يشبه أبدا ذلك الّذي غربت عليه شمس الثالث عشر.
لم أنم ليلتها، ضممت فدوى إلى صدري بحرارة وقلت لها:
ـ غدا يتحدّد كلّ شيء، وسيكون اليوم الأخير حتما، إمّا لبن علي، أو لهذه الثّورة اليتيمة.
نظرت إليّ بعينين يسكنهما الخوف وقالت:
ـ في البداية، كنت أتمنّى أن تتوقّف هذه الأحداث بأيّ شكل، كي لا نذهب إلى المجهول. أمّا اليوم، فلم أعد واثقة ممّا أريد حقّا… إذا حدث ذلك، فسيأخذ بن علي وقتا ليسترجع أنفاسه، أيّاما أو أشهرا، ثمّ يذبحنا بعد ذلك جميعا واحدا تلو الآخر بدم بارد…
صباح الرّابع عشر من جانفي، استيقظت كعادتي، كي أذهب إلى المطبعة، نظرت إليهم جميعا وهم نائمون، فقد كانت الحكومة قد قرّرت تعطيل الدّروس إلى أجل غير مسمّى… توقّفت قليلا قبل الخروج، كأنّ وخزة دبّوس نقرت قلبي، ثمّ تفقّدت أوراقي، وأخذت هاتفي الخلويّ وخرجت.
#عبد_اللطيف_علوي
#أسوار_الجنة
#سيرة_الثورة
ليلتها، سادت لغة الصّمت بيني وبين فدوى، وكنّا نعرف أنّ الدّقائق والسّاعات القادمة ستحدّد مصير البلد. حيرة وانتظار وغصّة محفورة في الحناجر، كانت أيّة صرخة شجاعة أو كلمة خذلان يمكن أن تغيّر مسار الأحداث في تلك السّاعات الرّهيبة، المليئة بالشّكّ والخوف والتّرقّب.
ولم يتأخّر الرّدّ…
لم تمض إلاّ دقائق حتّى قطع التّلفزيون الرّسميّ برامجه ليربط مباشرة بشارع الحبيب بورقيبة، حيث كان المئات يهتفون ويهلّلون ويرقصون استبشارا بخطاب الرّئيس، وسيّارات “اللّوكاسيون” تصدح بمنبّهاتها احتفالا بحكمة سيادته، المخلّص دائما كما كان قبل عشرين عاما.
وتواصلت التّصريحات الّتي تثمّن ما ورد في كلمته من قرارات الانفتاح والتّغيير ووعود الشّفافيّة والمحاسبة، نفس الوعود ونفس الشّعارات ونفس الخدع الّتي جاء بها خطاب السّابع من نوفمبر سنة سبع وثمانين، خطاب الانقلاب السّعيد، وكأنّ التّاريخ لم يغادر مكانه.
كان السّؤال الأقسى والأمرّ: هل يعقل أن ينجح الأمر مرّة أخرى؟ هل يعقل أن نكون شعبا سفيها ورخيصا وبلا ذاكرة إلى ذلك الحدّ؟ هل يمكن أن ننسى كلّ تلك الدّماء الّتي ما زالت لم تجفّ، في تالة والقصرين والرقاب وبوزيان وحيّ التّضامن والكرم وفي كلّ شبر مرّت به الثّورة؟ وهل يمكن أن ينتصر الجلاّد على “عامر الصّالحي” مرّة أخرى ويذبحه من جديد بخناجرنا، نحن الّذين حلمنا لأيّام بأنّ الحياة يمكن أن يكون لها لون آخر وطعم آخر؟
ما أسوأ أن تكون دائما على صواب!
لا أعرف من أين خرجت كلّ تلك المخلوقات العجيبة لتهتف بحياة سفّاحها المعبود، لكنّ الأمر كان واضحا فاضحا، كانت البلاد خاضعة لحظر التّجوّل، وكان واضحا أنّ حزب الرّئيس هو الّذي أعدّ تلك المسرحيّة الهزيلة. وعلى الشّاشات تجمّعت جوقة من المنافقين وكلاب الدّعاية، في حلقة تلفزيّة أعدّ لها صهره الطّرابلسيّ شخصيّا، لمحاولة إقناع النّاس بأنّ كلّ شيء سيتغيّر غدا ببضع كلمات سحريّة من بن علي، وسيصحو الشّعب فيجد نفسه في بلد جديد لا يشبه أبدا ذلك الّذي غربت عليه شمس الثالث عشر.
لم أنم ليلتها، ضممت فدوى إلى صدري بحرارة وقلت لها:
ـ غدا يتحدّد كلّ شيء، وسيكون اليوم الأخير حتما، إمّا لبن علي، أو لهذه الثّورة اليتيمة.
نظرت إليّ بعينين يسكنهما الخوف وقالت:
ـ في البداية، كنت أتمنّى أن تتوقّف هذه الأحداث بأيّ شكل، كي لا نذهب إلى المجهول. أمّا اليوم، فلم أعد واثقة ممّا أريد حقّا… إذا حدث ذلك، فسيأخذ بن علي وقتا ليسترجع أنفاسه، أيّاما أو أشهرا، ثمّ يذبحنا بعد ذلك جميعا واحدا تلو الآخر بدم بارد…
صباح الرّابع عشر من جانفي، استيقظت كعادتي، كي أذهب إلى المطبعة، نظرت إليهم جميعا وهم نائمون، فقد كانت الحكومة قد قرّرت تعطيل الدّروس إلى أجل غير مسمّى… توقّفت قليلا قبل الخروج، كأنّ وخزة دبّوس نقرت قلبي، ثمّ تفقّدت أوراقي، وأخذت هاتفي الخلويّ وخرجت.
#عبد_اللطيف_علوي
#أسوار_الجنة
#سيرة_الثورة