تدوينات تونسية

مقامك الفايسبوكي العظيم

عبد اللطيف علوي
هذا الفايسبوك، يعطيك وهما بأنّك أصبحت شخصا عظيما، وأنّك تفعل شيئا في غاية الأهمّيّة والخطورة…
يجمع حولك الآلاف من الأصدقاء والمحبّين والمعجبين، ويجعل نصّك محورا تدور حوله عشرات التّعاليق والإعجابات والنقاشات، ويشعرك للحظة بأنّك تكتب تاريخا أو تفتح بلادا أو تربح معركة من معارك الوجود الطّاحنة…
لكنّك حين تطفئ الحاسوب وتخرج من بيتك، ستمشي وحيدا في الشّارع دون أن يعرفك أحد، وتجلس وحيدا في المقهى دون أن يلتفت إليك أحد، وستقف طويلا كفزّاعة بشريّة في محطّة الحافلات، ولن تحظى بشبر للوقوف المعوجّ داخلها، إلاّ إذا حالفك الحظّ، وقذفتك موجة الزّحام قذفا إلى الدّاخل، وأنت تتأفّف كالأبله، وتضع يدك على جيبك خوفا على دراهمك الشّحيحة، وبطاقة التّعريف المهترئة…
حين تنزل إلى الشّارع، ستجد الجميع يتحلّقون حول أبطال آخرين حقيقيّين، ستهرع النّساء إلى بائع السّمك الّذي يدفع عربته كلّ يوم، ويزعق كصافرة إنذار مدوّية ويلحن بصوت حجريّ يئزّ كمفاصل سيّارة قديمة: “حووووووووووت”، فتتجمّع حوله عشرات النّسوة، يتلطّفن إليه بابتسامة أو تدلّل كي لا يغشّهنّ، يقف كالملك الّذي يوزّع النّياشين، تقف أمامه فيرمقك بطرف عين فاحصة، ويعرف من وجهك كم أنت مغفّل وغريب الهيأة وعديم الجدوى، فيلفّ لك بحركات سريعة كحركات الحاوي كيلوغراما من حثالة ما لديه، ويقذفه في يدك ويقبض الثمن وعيناه لا تزالان تطوفان على حريمه اللاّغطات حوله…
تذهب إلى الخضّار فينشغل عنك بمكالمة في غاية الأهمّية، عن ربوخ اللّيلة الفارطة فوق سطح “الرّيبوسكيّ”، ويسترجع مع مخاطبه طرفة من هوامشها وهو يبقبق ضحكا، ويشير إليك بيده أن تنتظر لحظة، ثمّ حين يؤذن لك بالكلام، تطلب كيلوغراما من الغلّة، يلفّها بسرعة كبهلوان السّرك، ويلقيها في يدك وتدفع الغرامة وتعود إلى البيت، تفتح زوجتك كيس السّمك وكيس الغلّة، فتشهق مصدومة: “ألم أحذّرك ألف مرّة من أن يغشّوك؟ ألم أقل لك فتّح عينيك جيّدا؟ إلى متى سيظلّون يستغفلونك كلّما خرجت لتقضي شأنا؟”… فتقسم كالأبله أنّك فتّحتهما جيّدا وبحلقت في يديه لكنّك لا تعرف ماذا حدث في الأثناء… ثمّ تذهب إلى ركن من البيت ذليلا صامتا كقاصر غرّروا بها، تتحاشى الأعين لكي تستر فضيحتها…
تأتي بالسّبّاك، فينظر إليك من أعلى إلى أسفل، ويدرك بحدسه اللاّقط أنّك غنيمة لا تتكرّر، شيء مّا في وجهك يدعو النّاس إلى استغفالك، ويشترط عليك قبل البدء أن تدفع كذا وكذا، تحاول أن تجد سبيلا إلى أيّة مفاهمة معه، لكنّه يغلق كلّ الأبواب في وجهك ويشير إليك بشكل حاسم، بأنّ ذلك هو الموجود، وإذا لم يعجبك فتستطيع أن تشرب كلّ الماء الّذي ينزّ من الحنفية المعطوبة والبالوعة الفائضة، فتسدل يديك وتقبل خانعا، ويشمّر هو عن يديه كالجرّاح، ويشرع في عمليّاته الدّقيقة وأنت تراقبه كالأبله دون أن تفهم شيئا وفمك مفتوح ولسانك يتدلّى، إلى أن ينتهي من غزوته، فينفض يديه باستعلاء ويجمع أدواته ويعود إلى قواعده سالما، لتمسك أنت الهاتف وتتوسّل إليه من جديد بعد أسبوع واحد بأن يعود ليصلح ما أفسده…
تقف أمام الميكانيكيّ، فيروعك عدد السّيارات الموجوعة أمام “عيادته”، ويهالك عدد الواقفين في انتظار لفتة كريمة منه، بكساهم وربطات أعناقهم وحقائبهم أحيانا وهم يتضوّرون تحت الشّمس يتمنّون أن يغمز إليهم بطرف عين، وهو غاطس في زيوته وشحومه لا يأبه لأحد ولا يلتفت لأحد، وصبيّه إلى جانبه عليه أن يفهم من الإشارة فإن لم يفهم يسبّ الجدّ الأوّل لسلالته القبيحة كلّها، ويزيده من شتائم النّصف الأسفل دون أيّ اعتبار لمقامك الفايسبوكيّ العظيم، وأنت تبتسم كالأبله، وتدعو أن لا يغضب الدّكتور ويفسد مزاجه…
تدخل إلى الإدارة فتشعر أنّك دخلت على أناس في بيتهم وبدون استئذان وفي وقت غير مناسب بالمرّة، ينظرون إليك دون مبالاة، ويعودون إلى حديثهم عن مقابلة الأمس وطبخة الأمس وحلقة الأمس وأنت واقف تنتظر أن ينتبه إليك أحد، وحين يضيق بك أحدهم، يكشّ في وجهك: “تْفَضِّلْ”… فتهمّ بالاعتذار والمغادرة، وأنت تلوم نفسك على قلّة ذوقك وتطفّلك الدّائم على هؤلاء الموظّفين المحترمين في مكاتبهم…
تعود إلى البيت منتفخا كمنطاد كبير… تجلس إلى حاسوبك مباشرة وتحصي عدد الجامات والتّعليقات المثيرة وتدخل إلى الرّسائل الخاصّة، فتجد سيلا من دعوات الاستغفار والتسبيح وتهاني العيد القادم بعد شهرين، ترتخي تماما وتشعر أنّك تخفّ وتعلو وتطير من جديد… تنشر قصيدتك الأصمعيّة الجديدة، أو خاطرتك المذهلة، أو بيانك السّياسيّ المحكم، وتبدأ في الرّدّ على تعليقات الإعجاب بكلّ ما تملك من يقين العظماء وتواضع العباقرة.
#عبد_اللطيف_علوي

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock