بشير موسى نافع
من الاحتجاجات المعيشية إلى سؤال شرعية النظام
تشهد إيران منذ نهايات كانون الأول/ديسمبر انتفاضة شعبية واسعة النطاق. عندما تندلع مظاهرات احتجاجية من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها؛ وفي أغلب المدن الرئيسية، من مشهد إلى كرمنشاه، ومن آراك إلى طهران، فلا بد أن تكون هذه انتقاضة شعبية. ليس ثمة طريقة لإعطائها وصفاً مختلفاً. أما كيف بدأ هذا الحراك الشعبي، ولماذا، وإلى أين سينتهي، فأسئلة من نوع آخر.
في الأيام الأولى للحراك الشعبي، وقبل أن يصل بعد إلى المدينتين الكبريين، طهران وأصفهان، افترقت أوساط الحكم في قراءتها للموقف إلى وجهتي نظر:
الأولى، حملت المحافظين مسؤولية استخدام الأعباء الاقتصادية لإطلاق حراك شعبي معارض للرئيس روحاني.
الثانية، عكست حكمة الدولة، وقالت أن الاحتجاج السلمي هو حق دستوري وأن حكومة روحاني تتفهم حجم المشكلة الاقتصادية وطبيعة شكوى المواطنين. بعد أيام قليلة من التظاهر، تراجع الخطاب العقلاني، وارتفع خطاب المؤامرة الخارجية وتهديد المتظاهرين بيد الدولة الحديدية؛ وبدأ سقوط القتلى في الشوارع.
تعيش إيران وضعاً اقتصادياً بالغ السوء؛ ولم يساعد الإفراج عن مليارات الدولارات في الخارج، بعد الاتفاق النووي، في إحداث تحسن ملموس في حياة الأغلبية الإيرانية. إيران دولة نفطية، ومنتج رئيسي للغاز؛ ولأن أسعار الغاز أكثر استقراراً، فلابد أن تكون إيران أقل تاثراً من انخفاض أسعار النفط من نظيراتها النفطية. ولأن الاتفاق النووي رفع الكثير من العقوبات عن الاقتصاد الإيراني، فالمفترض أن مقدرات إيران التصديرية في مجالي النفط والغاز قد تحسنت إلى قدر كبير. ولكن إيران ليست دولة نفطية وحسب؛ بل تتمتع أيضاً بقاعدة صناعية كبيرة، وتعتبر دولة مصدرة للمنتجات الزراعية. إضافة إلى ذلك، فإن معظم الأرقام الديمغرافية للمجتمع الإيراني، مثل الشريحة الشابة ومستويات التعليم، تصب لصالح إقامة رفاه اقتصادي، يستند إلى قاعدة صلبة ومستديمة. ولكن الأوضاع في إيران لم تزل بعيدة عن مستويات الرفاه. دخل إيران القومي هو ثلث نظيره التركي، بالرغم من أن تركيا ليست دولة نفطية، وتستضيف ثلاثة ملايين من اللاجئين.
ثمة من يعزو سوء الوضع الاقتصادي إلى سنوات الحصار والعقوبات الممتدة، التي أوهنت بنية البلاد التحتية، الصناعية والتقنية. هذه هي وجهة نظر الطبقة الحاكمة. ولكن الحقيقة أن لا الحصار ولا نظام العقوبات كان محكماً في أي من مراحله؛ وقد نجحت إيران، مثلاً، في تطوير صناعة عسكرية ونووية، حتى في ظل العقوبات الدولية. في المقابل، يرى قطاع من المثقفين الإيرانيين المستقلين، وقطاعات شعبية واسعة، أن المشكلة تتعلق بجملة أسباب أخرى.
فبعد إطاحة نظام الشاه في نهاية السبعينات من القرن الماضي، في ثورة شعبية مدوية، لم توضع نهاية للأقلية الحاكمة وسيطرتها على مقاليد القوة والثروة، بل استبدلت. وكما كل طبقة حاكمة، عرضة لقليل من المراقبة والمحاسبة، يعتبر الفساد القاسم المشترك الأعظم بين المسيطرين على مقاليد الحكم في الجمهورية الإسلامية.
ما يختلفون فيه، وحوله، هو أنصبة الفساد. والفساد في نظام الجمهورية الإسلامية لا يعتبر مسألة هامشية، كما هو المعتاد في الدول الحديثة، بل يتعلق بنسب كبيرة من الدخل القومي. وإن كان لسنوات الحصار والعقوبات من دور، فقد عملت على تفاقم ظاهرة الفساد وتضخمها.
بيد أن هناك مصدراً آخر لأزمة إيران الاقتصادية وتدهور مستوى معيشة الأغلبية، يعود إلى أولويات الجمهورية المختلة. تعيش الطبقة الحاكمة في الجمهورية الإسلامية وهماً إمبراطورياً متضخماً، وشعوراً مزمناً من التهديد، في الآن نفسه. لتحقيق الوهم الإمبراطوري، تتعهد الجمهورية الإسلامية نفقات هائلة في جوارها المشرقي، من العراق إلى لبنان، ومن اليمن إلى سوريا.
وبدافع من شعور التهديد، تنفق مليارات أخرى على برامج تسلح، ليس ثمة ضرورة لها، من المشروع النووي إلى تطوير منظومة صواريخ متوسطة وبعيدة المدى. كلاهما، وبالرغم من التكاليف الهائلة، انتهى إلى خسارة كاملة، كما في حالة المشروع النووي، أو إلى عقوبات أمريكية إضافية، كما هو حال منظومة الصواريخ. والمشكلة، أن إيران لم تزل تعتمد على الاستيراد لسد حاجاتها الدفاعية التقليدية.
محسنين الظن بحكامهم، والمبررات التي يتقدمون بها لسوء الوضع الاقتصادي، انتظر الإيرانيون زمناً كافياً، بعد توقيع الاتفاق النووي، لرؤية الآثار الإيجابية لرفع العقوبات. ولكن آمالهم في حياة أفضل لم تتحقق. وهذا ما أطلق الحراك الشعبي في نهاية كانون الأول/ديسمبر. المزعج، من وجهة نظر الطبقة الحاكمة، أن ما بدأ حراكاً احتجاجياً ومطلبياً، مدفوعاً بثقل الأعباء المعيشية، سرعان ما تحول إلى حراك سياسي، يرفع شعارات تندد بدكتاتورية الولي الفقيه، وبنظام الحكم برمته. وهنا تقع معضلة نظام الجمهورية الإسلامية، المزمنة، التي ما إن تتراجع إلى خلفية الساحة السياسية حتى تعود من جديد.
كانت الجمهورية الإسلامية هي وعد الثورة الشعبية، التي أطاحت نظام الشاه واستبداده.
ولأن الجمهورية ولدت من ثورة عارمة، ومن حلم عشرات الآلاف من ضحايا الثورة، كان يفترض أن تصبح الجمهورية تعبيراً حقيقياً عن إرادة الشعب. ولكن ذلك الوعد لم ينجز. ما جاءت به الثورة في النهاية كان جمهورية تستند إلى حكم ولاية الفقيه، وليس ولاية الشعب. في لحظة الانتقال الحرجة من النظام الشاهنشاهي إلى نظام الجمهورية الإسلامية، غلب رأي المؤمنين بولاية الفقيه، ما يمكن وصفهم بالشيعة الإحيائيين، الذين لم يجدوا حلاً لأزمة الفكر السياسي الشيعي إلا بإخضاع الجمهورية للولي الفقيه، النائب المفترض للإمام الغائب. بذلك، ولد نظام جمهوري يحمل نقيضه في داخله. فمن ناحية، تشهد إيران انتخابات رئاسية وبرلمانية، بصفة دورية، يختار فيها الإيرانيون رئيسهم بين عدد من مرشحي الرئاسة، أو نوابهم البرلمانيين بين عدد من المرشحين لعضوية البرلمان، أو مجلس الشورى. ولكن ثمة إرادة أخرى، تعلو إرادة الناخبين والمنتخبين معاً. يمثل الولي الفقيه المرجعية العليا للدولة، وليس لهيئة منتخبة، لا الرئاسة ولا البرلمان، أن تمضي قراراً يخالف قرار الولي الفقيه. وثمة مؤسسات موازية، تعكس إرادة الولي الفقيه، لا تقرر من يصلح مرشحاً للرئاسة أو البرلمان وحسب، بل ويمكن أن تسقط تشريعاً برلمانياً باعتباره مخالفاً لمرجعية النظام أو مصلحته.
يعرف الإيرانيون أن جمهوريتهم ليست جمهورية بالمعنى المتعارف عليه؛ وهذا ما يجعل الأزمات الإيرانية تنتهي إلى مواجهة مع النظام نفسه. كما في 2009، الأزمة التي انطلقت بفعل تزييف نتائج الانتخابات الرئاسية، انتقل الحراك الشعبي الأخير من الاحتجاج على الفساد وإضاعة أموال المواطنين في بنوك أعلنت إفلاسها بصورة مفاجئة، وعلى إجراءات الحكومة الاقتصادية، إلى الدعوة لموت الولي الفقيه. بمعنى، أن هناك اعتقاداً راسخاً لدى قطاع كبير من الإيرانيين بأن معاناتهم ليست وليدة الحكومة أو الرئاسة أو البرلمان. هذه، في النهاية، ليس المؤسسات صاحبة القرار. نظام ولاية الفقيه هو المشكلة الأساسية!
بيد أن من المبالغة تصور قدرة هذا الحراك الشعبي على إطاحة نظام الجمهورية الإسلامية. كما كل شعوب المشرق، ينقسم الإيرانيون إلى معارض ومؤيد، ولم يزل قطاع ملموس بينهم يؤمن بنظام الجمهورية الإسلامية، بكل مساوئه. والأهم، أن النظام يتمتع بأدوات تحكم وسيطرة لم تعرفها إيران في تاريخها كله، ولا حتى في ذروة سيطرة نظام الشاه. صنع الحراك الشعبي في 2009 هوة واسعة في العلاقة بين قطاع كبير من الإيرانيين ونظام الحكم؛ وما سينجم عن الحراك الحالي هو تعميق هذه الهوة واتساعها. شرعية النظام تتآكل، ولكن قدرته على الاستمرار لم تنفد بعد.