حصيلة الإنتفاضة الشّعبيّة في إيران
سامي براهم
إيران دولة إسلاميّة كبرى سياستها ذات منحى تدخّليّ ضمن مشروع ورؤية استراتيجيّة قائمة على سرديّة كبرى يتقاطع فيها البعد الديني والمذهبي والتّاريخي والسياسي والاقتصادي، لذلك تفرض علينا أن نكون معنيين بما يحدث فيها سلبا أو إيجابا…
التحرّكات الاجتماعيّة التي اتّخذت بعدا سياسيّا وصل حدّ التّساؤل عن طبيعة النّظام نفسه، سواء تواصلت أو قُمِعَت أو وقع احتواؤها أو تصريفها تكشف عن جملة من الأوضاع والإشكاليّات :
• فشل الثّورة في تحويل الشعار المركزي للثّورة “النّصر للمستضعفين” إلى سياسات اقتصاديّة وتنمويّة تحقّق العدالة والرّفاه الاجتماعي رغم حجم الثّروات الطبيعيّة وأقدار من السيادة على القرار الوطني… غلب الاقتصاد الليبيرالي على منوال الاقتصاد الإسلامي الذي ما بشّر به باقر الصّدر في كتابه الشّهير اقتصادنا والبنك اللاربويّ في الإسلام… حيث وقع الاتّكاء على الطبقات الضّعيفة لمعالجة العجز في الميزانيّة واختلال الموازنات الماليّة وتفشّي الفساد من خلال التّرفيع في الجباية والأسعار.
• استفاقة نزعة المصلحة الوطنيّة أوّلا إلى حدّ الشّوفينيّة من خلال الاحتجاج على حجم الهدر المالي والعبء اللوجستي للسياسات الخارجيّة للدّولة على حساب مقدّرات البلد وحاجات المواطنين ممّا يجعل هذه السياسات محلّ شكّ من حيث شعبيّتها وتعبيرها عن الإرادة العامّة للشّعب الإيراني في ظلّ نظام سياسيّ مزدوج المرجعيّة والشرعيّة والسّلطة.
• إمكانيّة استفاقة النّظام السياسي الحاكم الذي اعترف بمشروعيّة جزء من التحرّكات الاجتماعيّة ووعد بالتفاعل مع مطالبها رغم صعوبة ذلك على مدى قريب، ونسب جزء منها للتأثير الخارجي الذي إن صحّ فهو كذلك دليل اختراق وقابليّة للاختراق استفاد من معطيات موضوعيّة محليّة تستحقّ الدّرس والتشخيص.
• الحاجة لإصلاحات عميقة وجذريّة لا فقط في المجال الاقتصادي والاجتماعي والحريّات والسياسات الخارجيّة بل كذلك على مستوى بنية النّظام السياسي الحاكم وهويّة الدّولة التي لم تستطع رغم السرديّات الدينيّة والتّاريخيّة الكبرى أن تمتصّ الاحتقان وتحتويه بل وتستبقه… ممّا يطرح سؤال الاجتهاد على مستوى السياسة الشرعيّة في الفضاء الشيعي الإمامي.
• وتكتشف هذه التحرّكات أخيرا من منظور المتقبّل العربي والتّونسي خاصّة أمرين متناقضين :
أوّلا حجم الكره لدى فئات واسعة تجاه دولة إيران إمّا من منطلق مذهبي طائفي أو من منطلق سياسي محمول بدافع خيبة الأمل حيال مواقفها منذ الغزو الأمريكي للعراق تعمّقت مع استغلالها لأوضاع المنطقة بعد ثورات الرّبيع العربي للتمدّد والتوسّع والتدخّل السياسي والعسكري المباشر وفرض وضع ديمغرافي وسياسي يتّسم بالهيمنة وسياسة فرض الأمر الواقع حيث لم تعد سرديّة المقاومة كافية للتّغطية على كلّ هذه السياسات والأطماع…
ثانيا حجم الولاء لإيران لدى فئات أخرى من منطلق الولاء المذهبيّ العقائدي أو من منطلق قراءة سياسيّة للمحاور والتّحالفات في المنطقة أو في إطار الفرز والاصطفاف وتحديد الأولويّات والتحدّيات والرّهانات المطروحة على شعوب المنطقة…
هذا الولاء وقع التّعبير عنه لدى عدد من الأتباع بدرجات متفاوتة من التطرّف والهستيريا تتجاوز مجرّد الغيرة والقناعة السياسيّة أو العقائديّة أو التّأويل والقراءة إلى حالة لافتة من التّماهي والولاء المرجعيّ المطلق بكلّ محمولات العبارة وأبعادها ومخاطرها وعلى الدّاخل الوطني الذي أصبح فيه شركاء خارجيّون متشاكسون يستلحقون عددا من النّخب والنّاشطين ويشترون ذممها وأقلامها وحناجرها.
تماز إيران عن العرب بوجود واجهة سياسيّة لها عمق التّاريخ وشرعيّة الثّورة ورصيد المقاومة وكلّ ذلك مكسب تنفق منه للتّغطية على الأخطاء والانحرافات وتستند عليه للدّعاية والاستقطاب والشّحن والتّعبئة، لكن بيّنت التحركات الأخيرة أنّ هذا المكسب الذي تحوّل إلى سرديّة قابل للنّضوب إذا لم يقع تعزيزه وترشيده بتصحيح سياسات الدّاخل والخارج وعقلنة الأطماع وأحلام الهيمنة.
في مقابل ذلك تفتقد المنطقة العربيّة لمشروع عربيّ جامع وقوى سياسيّة وحركات اجتماعيّة فاعلة حاملة لمشروع ناضج منسجم مع تطلعات شعوب المنطقة… فضلا عن صعوبة إحداث فجوة إصلاح سياسي في الأنظمة القائمة على نمط الفقه السلطاني الوسيط تحتمي من ضرورة الإصلاح بمزيد من الارتهان إلى الخارج والتّطبيع مع العدوّ الصّهيوني وإحكام القبضة على شعوبها.
ليس بالإمكان إيقاف أطماع ساسة إيران وملاليها بمجرّد المراهنة على انتصار العقلانيّة على العماء السياسي لديهم بل من خلال قيام مشروع عربي مواطني جامع ساهمت إيران في تعطيله ووضع العراقيل في طريق المحفوفة ابتداء بأشواك الاستبداد والفساد والتخلّف والتعصّب والإرهاب… الثقافة والسياسة كما الطبيعة تأبيان الفراغ الذي يملؤه أصحاب الأهواء والأطماع والطّموحات والأحلام… فليكن للعرب حلمهم وصحوتهم ونهضتهم، أمّا إيران فما وقع من مشاهد رمزيّة بالغة التّعبير في التّحرّكات الأخيرة هي صفعة في وجه مهندسي المشهد الإيراني وناقوس خطر إذا لم يؤخذ مأخذ الجدّ سيكون الربيع العربي رغم انكساراته وتعثّراته على مشارف طهران بقوانين السوسيولوجيا وديناميكيّة التّاريخ والعمران البشري… وإنّ غدا لناظره لقريب.