Site icon تدوينات

أذهلني ما سمعته عن جرأة أمّي

عبد اللطيف علوي

عبد اللطيف علوي

عبد اللطيف علوي
حين كنت أعود إلى البيت، لم أكن أجد سوى الصّراخ والخصام طول الوقت، لم تعد الأسباب القديمة وحدها تكفي، صار بين أبي وأمّي سبب جديد للخصام الدّائم، كثيرا ما سمعتها ترجوه أن يزورك في السّجن، كان الأمر يتكرّر كلّ أسبوع في موعد الزّيارة:
ـ يا رجل! … هل ستدفنه بالحياة؟ … ألن تزوره غدا أيضا؟
ـ قلت لك لا أستطيع أن أزوره كلّ أسبوع، ولا حتّى كلّ شهر… أنت لا تريدين أن تفهمي… الطّريق طويل وشاقّ، ووسائل النّقل شحيحة، والمصروف لا أقدر عليه… وفوق ذلك كلّه، قلت لك ألف مرّة إنّني صرت أشعر بوخزة في الجهة اليسرى من صدري مثل الإبر… هل تريدين أن أسقط كالجيفة بين السّجون إرضاء لولدك؟
تردّ عليه بحرقة:
ـ ألم تفكّر فيما يعانيه هو أيضا هناك؟ أليس ابنك؟ ألم يكفك أن تظلمه الدّنيا، فنزيده نحن ظلما على ظلم!
يصرخ ساخطا وهو يزداد جنونا من إلحاحها وجرأتها عليه:
ـ لم يظلمه أحد… هو من ظلم نفسه وقلب حياتنا معه إلى جحيم!… لم يقل له أحد أن يأخذ “فلوس الخوانجيّة” ويوزّعها على الهمّال!
وتنفجر أمّي في وجهه كما لم أعرفها يوما:
ـ هل تصدّق الحاكم وتكذّب ابنك؟ أنت تكرهه منذ كان صغيرا… اظهر على حقيقتك وقل إنّك تكرهه وتتمنّى أن لا يعود إلى هذا البيت أبدا… لكنّك لن تستطيع أن تمنعني عنه! وسأزوره ولو ذهبت إليه حافية…
وتعلو الأصوات ويختلط الزّعيق بالضّرب والصّراخ والبكاء، ويصير البيت جحيما… 

كانت سناء في حاجة إلى أن تتكلّم، فانفتحت مثل حنفيّة مكسورة، وكنت في حاجة إلى أن أسمع وأعرف كلّ شيء عمّا حدث في فترة سجني، أذهلني ما سمعته عن جرأة أمّي إلى حدّ أنّها تمرّدت عليه وأوجعته كما لم أكن أتخيّلها تفعل أبدا، سألتها باستغراب:
ـ أوَقدرت على ذلك فعلا؟ أمّي الّتي لم أرها يوما ترفع رأسها في وجهه لتعارضه في أمر؟
ـ نعم… بعد دخولك إلى السّجن، تغيّرت أمّي حتّى لم أعد أعرفها، صارت تناطحه رأسا برأس وتجادله وتُغلظ له في كثير من الأحيان كما يُغلظ لها… ظلّ يضربها في البداية مثلما كان يفعل، وبالغ في إيذائها حتّى صرت أصرخ أحيانا وأبكي خوفا من أن يقتلها… أحيانا كانت “داده” تهرع إلينا، وأحيانا عمّي وأحيانا بعض الجيران، فيخلّصونها من يديه وهي في حال لا تطيق النّظر إليه، لكنّ لسانها لم يكن ليصمت أو يلين… كانت تصيح كما يصيح وتلفظ الكلمات من صدرها كالرّصاص، وتتلقّى الصّفعة تلو الصّفعة بوجه قاس مكشوف وعينين حادّتين لا تنحطّان ورأس متعجرف… حتّى البكاء، لم أعد أراها تبكي مثل كلّ مرّة بعد أن يضربها ويسبّ أهلها الميّتين، صارت ملامحها في غاية القسوة… ويوما بعد يوم، شعرت أنّ أبي بدأت يداه ترتخيان وقبضته تلين وتنكسر… أدرك أنّها لم تعد تلك المهيضة الذّليلة المسكينة، وأنّ الضّرب ما عاد ينفع، بل صار يجعلها في كلّ مرّة تهتاج وتتمرّد أكثر… صار يكتفي بأن يشتمها ثمّ يغادر البيت إلى الحانوت ولا يعود إلاّ وقت النّوم… هل تتذكّر يوم زارتك أمّي و”داده” وحدهما؟
ـ نعم… أتذكّر، كان ذلك بعد عيد الفطر على ما أذكر… ويومها سألتهما عن أبي فأخبرتاني أنّه مريض!
ـ يومها حضّرت كلّ مستلزمات الزّيارة، ورجته أن يوصلها إليك، لكنّه رفض بشدّة، وأصرّ على أن يؤجّلها إلى الأسبوع الموالي، ليلتها لم تنم، ومع انبلاج الفجر ذهبت إلى “داده” وأيقظتها، وأقسمت لها أنّها إذا لم ترافقها إلى الكاف فسوف تذهب بمفردها، ولم تجد بدّا من الرّضوخ لقرارها… حتّى أبي لم تخبره… ما حدث في ذلك اليوم كان مأساة أخرى لا أريد أن أرويها الآن…
#أسوار_الجنة
#سيرة_الثورة
#عبد_اللطيف_علوي

Exit mobile version