إيران بين ثورتين

سامي براهم
كثيرا ما كنت أتساءل هل السياسة الخارجيّة لإيران تعبّر عن خيار شعبيّ ؟… ربّما يقال أنّ السّلطة في إيران منتخبة وقراراتها تعبّر بالضّرورة عن عموم الشّعب الإيراني أو أغلبه رغم وجود سلطة عليا موازية مرجعيّتها ومصدر سلطتها ليس مدنيّا… لكن هذا يعمّق السّؤال أكثر: لماذا يرضى عموم الشّعب بتبديد ثرواته في مغامرات خارجيّة كان بالإمكان إدارتها بشكل أكثر رصانة ومعقوليّة ونجاعة وعدالة وأقلّ كلفة للشّعب الإيراني ؟
عندما زرت إيران بعد الثّورة التّونسيّة بأسابيع قليلة كان الشّارع الإيراني ملتهبا ومتحفّزا للتّظاهر تعبيرا عن مساندته لتونس وثورتها، وبينما كان الخطاب الرّسمي يلهج بالثّورة التّونسيّة التي اعتبرها استنساخا للثورة الإسلاميّة في إيران وسيرا على نهجها، على الميدان كان التصدّي الأمني للمظاهرات المساندة على أشدّه لأسباب أمنيّة كما قيل لنا… لكن الأمر تجاوز ذلك إلى الحصار المشدّد والرّقابة اللصيقة عليّ وعلى مرافقي من تونس…
كان عدد من الطلبة الإيرانيين الذين واكبوا أشغال مؤتمر التّقريب بين المذاهب يتلهّفون للقائنا والحديث معنا لكنّنا منعنا من الحديث معهم في أروقة مقرّ المؤتمر… وفي غفلة من المراقبين تمكّنت من لقاء بعضهم في إحدى القاعات وكانوا يتحدّثون عن ثورة تونس بلهفة وشوق وإعجاب… كان حديثي تلقائيّا إلى حدّ الطفوليّة أحيانا… ذكرتُ لهم أنّ إعلامهم يلاحقني في ردهات المؤتمر ليفتكّ منّي تصريحا يصدّق قول مرشدهم عن امتداد الثّورة التّونسيّة لثورتهم…
أفهمتهم أنّ ما وقع في تونس نتاج سياق محلّي وليس امتدادا لأحد وليس له عنوان دينيّ… ذكرت لهم رفضي إعطاء تصريح لقناة المنار لأنّها ساندت نظام الاستبداد في تونس وكانت منبرا له بمقابل ماليّ سخيّ… وذكرت لهم جوابي لإحدى وكالات الأنباء الرّسميّة الإيرانيّة عندما ألحّت عليّ في الجواب عن دور الثّورة الإسلاميّة في إيران في تأجيج الثّورة التّونسيّة حيث كان جوابي “يجب أن نعكس السّؤال ما هو دور الثّورة التّونسيّة في تصحيح مسار الثّورة الإسلاميّة في إيران ؟؟؟ لم يغضبوا من صراحتي الممتلئة بوجدان الأحداث في تونس بل كان حديثي مثار نشوة وافتخار لهم وبادلوني الكثير من الأفكار والانتقادات لمسار الثّورة في إيران.
لم يُسمَح لنا بالتجوّل في المدينة إلا بعد إصرار ولمدّة محدودة مع مرافق… صدمت لحجم الفقر والبؤس وكثرة المتسوّلين في الطّرقات والشّوارع والفضاء التّجاري الذي نقلني إليه مرافقي في قلب المدينة… لفت انتباهي كذلك كثافة حضور النّساء في الفضاء العامّ والارتداء الشكليّ لغطاء الرّأس مع كثرة استعمال موادّ التجميل.
عدت بانطباع فيه الكثير من التنسيب للإعجاب السّابق بجمهوريّة الثّورة خاصّة وأنّ أجواء المؤتمر لم تكن توحي بأيّ بعد معرفي أو تقريبي… فقد كان كلّ شيء معدّا مسبقا ومنشورا، المخرجات والتّوصيات وحتّى كلمات الوفود التي من بينها كلمات ممثلي النّظام المخلوع في تونس وكان هذا مستفزّا لنا ومثيرا للسّخرية.
كان لديّ انطباع منذ ذلك اللقاء الأوّل صاحبني طيلة هذه السّنوات عن بلد من أهمّ مقوّماته النّفظ والأيديولوجيا المذهبيّة التي تقتات من المظلوميّة ماديّا ومعنويّا ورمزيّا وسياسة اختراق الشّعوب واستلحاق مواطنيها… أمّا الباقي فهو شكليّ هشّ حتّى المشروع النّووي الذي يفترض أن يعبّر عن حجم التقدّم العلمي والرقيّ المعرفي والحضاري… لكن كلّ ذلك يفتقد قيمته طالما أنّه قائم على حساب نهضة شعب كان يفترض أنّ الثّورة حرّرته من أعتى نظام ملكيّ على طريقة الامبراطوريّات الشرقيّة القديمة…
كتبت هذه التدوينة على وقع المظاهرات التي تشهدها عدد من شوارع إيران التي طال هدوؤها وصمتها أمام عبثيّة السياسات الخارجيّة للدّولة على حساب مقوّمات الشّعب الإيراني والعربي على حدّ سواء… ولكن مع ذلك لا نتمنّى لإيران الفوضى التي يمكن أن يقع استغلالها لإرباك الدّولة… لا نريد أن يحدث لإيران ما حدث في مناطق عربيّة بدعم من إيران نفسها وبتخطيط منها وبأسلحتها وفصائلها المسلّحة… لأنّنا نفكّر بعقلانيّة استراتيجيّة لا بأهواء مذهبيّة وأيديولوجيّة أو شوفينيّة… نريد لإيران أن تنجز نهضة شعبها التي تعطّلت بسبب أعباء الخارج، ونريدها أن تكون بنهضتها رصيدا لنهضة العرب في مجال الحريّة والعدالة والتنمية والرقيّ الحضاري.
ساهمت إيران بسياساتها الرّعناء العابثة في تغذية الإيرانوفوبيا وتدمير مقدّرات العرب وتقوية الجناح الرّجعيّ جرّاء سياسات الهيمنة التي دفعت عددا من الدّول إلى التّطبيع ومزيد الارتماء في أحضان من يقدّم الحماية في مواجهة العدوّ الإيراني…
ولكن كلّ ذلك لن يعصم إيران ولن يجعلها بمنأى عن الرّفض الشّعبي لخياراتها السياسيّة في المنطقة… كما لن يعصم دول الثّورة المضادّة من التفكّك الدّاخلي جرّاء مقاومة السير الضّروري للتّاريخ نحو التقدّم.

Exit mobile version