عن “الصرّ”، ملح الطفولة ومعاناتها في ثلج دير الكاف

كمال الشارني
ترتبط ذكريات طفولتي بالثلج في دير الكاف بغرابة الاستيقاظ صباحا على الصمت الكوني المثير للدهشة لأن العواصف تتوقف والثلج لا يحدث صوتا مثل المطر عندما ينزل، على الضوء الساطع لبياض الثلج يكسو العالم: من بيوتنا الطينية الصغيرة إلى الأكواخ الفقيرة المبنية من القش إلى أشجار اللوز المثقلة في الحديقة بالأغصان البيضاء، وتجن الكلاب الأهلية لأنها فقدت القدرة على تشمم الطرقات فوق البساط الأبيض.
أذكر طفولتي أيضا بنصب الفخاخ الفاشلة لعصفور “أم السيسي” وأنا أجري حافيا فوق الثلج تتردى في أثري صرخات أمي بلا جدوى، إنما دون أن أمسك ذلك العصفور الجميل أبدا، أتذكرها بالطرقات المضنية إلى المدرسة، بمرض “الصرّ”: انتفاخ أصابع اليدين والساقين بسبب البرد واللعب بالثلج وتوقف الدورة الدموية في الأطراف. أمهاتنا يعالجن ذلك ليلا بالملح في الماء الساخن، ويضربننا حين نستسلم للرغبة التي لا تقاوم في حك الأصابع إلى حد جريان الدم. باستثناء ذلك، كان التحلق حول النار مساء علاجا لكل الأحزان ومخاوف الطفولة وغرابة الثلج، كم كانت النار جميلة، شاعرية في حضور الثلج ومرض “الصرّ”.
كل الشتاءات الحزينة التي عشتها فيما بعد من السجن إلى باريس، مرورا بعدة عواصم أخرى لم تكن سوى استحضارا لحنين الطفولة وخيالاتها. في “الثلجية” الأخيرة في 2012، تزحلقت بي السيارة على طريق الدير المشرف على كل قرى ولاية الكاف، من ساقية سيدي يوسف على حدود الجزائر إلى مائدة الملك النوميدي العظيم يوغرطة، كدت أسلم في السيارة عندما استسلمت للانزلاق فوق منحدر الجليد لولا كوكبة من الأطفال بمناديلهم الزرقاء والوردية عادوا إلي من طريق مدرسة سيدي منصور في دير الكاف ليعيدوها معي إلى المعبد ثم يرتموا فيها بالضوضاء الجميلة للطفولة: هل تعانون من الصرّ ؟
عندما نزلوا من السيارة أمام بوابة المدرسة، اكتشفت أنهم أكثر من عشرة أطفال، وأن أكثر من نصفهم من أقاربي، قاومت الرغبة في احتضانهم، شفاء لطفولتي المعذبة والغريبة، “عمي كمال”، يقولون لي بأصوات جماعية متداخلة: “كل يوم نتداوى بالماء والملح، مثل كل أهالي الدير”.

Exit mobile version