فلسطين بين خداعين، المهادنة والمقاومة

أبو يعرب المرزوقي
لا أحتاج لأن يذكرني أحد بأن الفلسطينيين أدرى بشؤونهم. فهذا أمر مفروغ منه خاصة إذا سلمنا بأن دار الإسلام قد فتتت نهائيا ولم يبق لها وجود وراء المحميات التي آلت إليها ليست بمقتضى سياسة الاستعمار وحدها بل لأن حكامها ونخبها صارت تعتبر وحدة الأمة ماضيا قد درس.
فجل النخب العربية وخاصة أدعياء الحداثة منهم يعتبرون مآل الأمة الإسلامية جنيس مآل المسيحية بعد القرون الوسطى عندما أصبحت الدول القومية فيها بديلا عن الوحدة التي حاولتها الكنيسة المسيحية مباشرة بعد غزو همج الجرمان وسقوط الامبراطورية الرومانية. وطبعا فكل المقارنات تهمل الفروق.
ينسى اصحاب المقارنات السطحية الفرق الجوهري بين سلطة كنسية مسيحية لا دور لها في بناء أمة أوروبية طرأت عليها من الشرق في ظل امبراطورية كانت مستعمرة لأهلها وتحالفت مع مغول الجرمان وبين الإسلام الذي تأسس مع دولته في آن فكان هو بؤرة كل ما يجري في أمته من بعد تحققه في التاريخ الفعلي.
وبهذا المعنى فقياس مآل أمة الإسلام بما حصل في أوروبا بعد العصور الوسطى لا يستقيم لذلك فلست من المسلمين بأن القضية الفلسطينية أمر الفلسطينيين وليسوا بأدرى بشؤونه من أي مسلم يعتبر فلسطين أرضا إسلامية لا فرق بينها وبين مكة التي ليس سكانها أدرى بشعابها من أي مسلم.
لذلك أؤمن بأنه من حقي بل ومن واجبي أن أدلي بدلوي في المسألة الفلسطينية. وأكثر من ذلك فإن ما يجري في العالم يحق بل ويجب على كل مسلم أن يكون له فيه رأي فرض عين. فالإسلام لم يأت لقوم دون قوم بل هو رسالة كونية خاتمة تؤمن بالأخوة البشرية (النساء 1) وبالمساوة بين البشر (الحجرات 13).
ومن هذين المدخلين بوصفي مسلما وبوصفي إنسانا لا يمكن ألا أدلي برأيي في علاج القضية الفلسطينية. وسأحاول تقييم الحلول المعروضة بين من يقدمون تبادل التهم بين الأطراف التي تدعي الحرص على القضية ضمن العرب أولا ثم ضمن المسلمين وحتى ضمن القوى الدولية التي تدعي الحرص على السلم العالمية.
سأبدأ بأكثر الناس اتهاما بالخيانة من العرب: الذين يبدون وكأنهم يولون بوجوههم للمسألة الفلسطينية. وهؤلاء لو كان لسلوكهم ما يخفيه من استراتيجية بعيدة هدفها الفراغ لتحقيق الشروط التي تجعل تدخلهم يصبح ذا فاعلية لكنت لهم من المؤيدين. لو كانوا بحق يعدون للآجل بالحد من العاجل لكنت معهم.
وقد كتبت مرة في كوالالمبور سنة 2004 إن ما فعلته اليابان وألمانيا وحتى الصين من تقديم الآجل على العاجل والتفرغ لاعداد العدة بحيث يصبح العدو الذي غلبهم بحاجة إليهم فيتودد إليهم بإعادة حقوقهم مما أخذه منهم لما هزموا بعد أن فهموا على الهزيمة لكان ذلك أولى بالعرب.
لكن ما حدث هو أن العرب كانوا مثل إيران حاليا يستعملون القضية الفلسطينية ورقة لإلهاء الشعوب والكذب عليها بدلا من تأجيلها والعمل على تحقيق شروط علاجها. فلا هم أجلوها ولا هم عالجوها ولا هم خاصة قدموا الآجل على العاجل حتى يعدوا ما أعدت له اليابان وألمانيا والصين من اجل الندية.
ولست غافلا على أن السعودية ومصر بقية العرب اليوم تخلوا عن سياسة نصف القرن الماضي وقرروا اتباع سياسة اليابان وألمانيا والصين أعني تقديم الآجل على العاجل لتحقيق الندية. فلا هم لهم إلّا الحرب على الثورة والحفاظ على فضالة من الوجود نوابا للاستعمار في المحميات التي يسمونها دولا.
ولهذه العلة لم أعد أفهم الفلسطينيين الذين يتباكون على تخلي العرب عنهم. فأنا اعتبر هذا التخلي رحمة وليس نقمة. فما تخلى عنه العرب كان ينبغي أن يعتبر تحريرا للفلسطينيين من الوصاية وأن يكون فرصة للتحرر من كل وصاية بدلا من طلبها من أكثر مستعملي قضيتهم ورقة لمساومة إسرائيل والغرب بها.
أولى بالفلسطينيين أن ييأسوا من إيران وتوابعها من يأسهم من العرب. فقد يكون العرب فهموا أنهم قد كانوا مثل إيران الآن يستعملون القضية لمخادعة الشعوب بعد أن أصبحت الشعوب مطالبة بحقوقها ولا تعتبر الخداع بالتصدي لإسرائيل بديلا كافيا عن دورها في رعاية شأنها بنفسها: الثورة.
وما لجوء الانظمة العربية التي كانت تتاجر بقضية فلسطين إلا لأن الحكام ونخبهم فهموا أن الورقة قد احترقت وأن الخطر الداهم عليهم بوصفهم عملاء مصدره من يمكن أن يعالج هذه القضية علاجا حقيقيا بعد أن تصبح الشعوب هي بنفسها صاحبة الامر: حلف ضد الثورة وليس ضد إيران كما يدعون.
لذلك فهم في الحقيقة حلفاء إيران وكل من يحارب الثورة أعني وعي الامة بأن من يحمي إسرائيل والاستعمار هو عملاؤه من الأنظمة العربية والإيرانية وكل النخب التي تعتبر تحرر الشعوب خطرا عليها. وأول شعب ينبغي أن يتحرر هو الشعب الفلسطيني بؤرة التحرر الوطني الأخيرة في عالم العبودية.
بهذا المعنى اعتبر تخلي العرب والمسلمين على القضية الفلسطينية فرصة سعيدة وليس مدعاة للنواح والبكاء. لكن هل الفلسطينيون مدركون لأهمية هذه الفرصة ومستعدون لأن يكونوا جزءا من الثورة؟
أم هم كما أراهم حاليا انقسموا إلى تبعيتين كلتاهما مدعاة للمتاجرة بالقضية فصاروا مع الثورة المضادة؟
فمن يدعي أنه مضطر لمجاراة الانظمة العربية التي تخلت عن القضية وتعد للصفقة الكبرى -جماعة الضفة- يمكن اعتبارهم قد انضموا للثورة المضادة في المعركة التي تقدم الآجل على العاجل لكي تصبح الامة حرة قادرة على استرداد ما فقدت. ومن يدعي المقاومة بالتبعية لعنتريات إيران أخطر على الثورة.
فالانضمام إلى عنتريات إيران ليس حائلا دون تحرير القدس وفلسطين في العاجل فحسب بل هو مانع لتصور آجل ممكن إذا كانت بلاد العرب كلها قد فقدت استقلالها الروحي فأصبحت كما كانت قبل الإسلام منقسمة إلى مناذرة عبيد لورثة فارس وغساسنة عبيد لورثة بيزنطة في عصرنا الحالي.
وبذلك يكون أول من يخون قضية فلسطين أهلها المباشرين بصفيهما. فلا فرق عندي بين أمراء الحرب الذين ضيعوا الثورة في بلاد الربيع وبين الحركات الفلسطينية التي جعلت القضية ورقة تتاجر بها فأصبحت المهادنة والمقاومة نوعين من الانتحار الناتج عن الجهل بطبيعة الحرب الجارية سبل ربحها.
العائق الاول والأهم في تحرير فلسطين مضاعف:
وهم الدولة في الضفة وما تولد عنه من طبقة تتمعش من حماية إسرائيل تماما ككل الانظمة العربية التي تحمي مصالح من يحميها ضد شعوبها.
وهم الطريقة التابعة لإيران وبوقها في بيروت. إنها عنتريات تخدم دعاية إسرائيل لا قضية الشعب الفلسطيني.
فكل ما حققه الشعب الفلسطيني بانتفاضته الأولى أضاعه الوهمان: وهم أوسلو التي خلقت طبقة متمعشة من خدمة أمن اسرائيل لأنه لا يمكن لشعب أن يتحرر إذا كان زاده اليوم يأتيه من رضا العدو عليه الذي يغذيه بالقطارة كالطفل بالبزازة. وخرافة ما أخذ بالقوة لا يرد إلا بالقوة دون تحديد طبيعتها.
فلو كانت اسرائيل قد أخذت ما أخذته بالقوة كما يفهمها أصحاب هذا القول لأخذت كل فلسطين من اليوم الأول. لكنها اخذتها بمعنى آخر من القوة. وهو الذي ينبغي أن يفهمه الفلسطيني والعربي والذي فهمه الياباني والألماني والصيني وكل الذين حققوا الندية ببعدي القوة المادي والرمزي.
ومرة أخرى لست غافلا على أن الكثير من توابع إيران وبوقها اللبناني سيتهمونني بالانهزامية لأن ما أقوله يكشف خداعهم واستعمالهم للقضية الذي فضحته الثورة ويتصورون أن ما يجري حاليا بمناسبة القدس يمكن ان يعيد لهم شيئا من المصداقية: احتلال الهلال باسم تحرير فلسطين خدعة لم تعد تنطلي على أحد.
وبهذا المعنى فحتى من تخلوا عن فلسطين وحالفوا إسرائيل خوفا من الثورة أعتبرهم أقل خداعا ممن يزعمون تحريرها باستعمار كل بلاد العرب دون مس شعرة من اسرائيل. الأولون خائفين من الثورة أما الثانون فهم محالفون لأعدائها لتقاسم كل بلاد العرب الذين سيصبحون في وضع فلسطين أو في أسوأ منه.
كل ذلك لأن العاجل يعمي عن الآجل: احتلال بعض فلسطين يخفي من يدعي تحريرها باحتلال جل بلاد العرب ولا تهمه فلسطين إلا كورقة لاستغفال العرب ومنهم خاصة أهل فلسطين وقادتهم ممن لم يدرسوا شروط القوة الإسرائيلية: القوة العنيفة البطيئة التي تجعلك مهدم نفسك بنفسك لعدم فهم منطق العصر.
منطق العصر يفرض على جماعة أوسلو أن يتخلوا عن وهم الدولة الذي انهته إسرائيل بابتلاع الضفة من خلال اتفاقية أوسلو التي جعلت طبقة هذه الدولة شرطة إسرائيلية ومحمية مثلها مثل كل بلاد العرب. والتخلي عن وهم الاعتماد على إيران. الحل هو شعب يقاوم كما كان ليفرض الدولة الواحدة ذات القوميتين.
وهذا مقترحي ليس جديدا. اقترحته حتى قبل أن تفرض إسرائيل جعله الحل الوحيد المتبقي. كنت دائما ضد المطالبة بحدود 67. فلسطين هي كل فلسطين وليس بعضها. ومنطق العصر يقضي بأن نحقق ذلك بما هو مسموح به دوليا وممكن لما نقدر عليه. فرض الدولة الواحدة وستكون فلسطينية بأقرب ما يتصور العدو.
فلو هدد عباس بحل الدولة الوهمية في الضفة وشرع في تطبيقه لكان ذلك أقوى وسيلة لفرض كل مطالب الشعب الفلسطيني بعيدة المدى: ذلك أن العالم كله سيفرض الدولة الواحدة بعد أن فرضته اسرائيل بالحيلولة دون حل الدولتين. ولو هددت حماس بالانضمام إلى هذا التهديد لاضطر غبي مصر للتخلي عن صفقته.
لذلك فعندي أن كلام الفلسطينيين عن تخلي العرب عن قضيتهم من أسخف ما أسمع: هم بعدم الاقدام على هذين الخطوتين الآن وليس غدا هم أول المتخلين عن قضيتهم. هم من يجعل قضيتهم مستحيلة الحل ليس لعسر فيه بل للجهل بمنطق العصر: لو كان الأمر مسألة قوة مادية لاحتل الغرب مباشرة المشرق كله.
هم يفضلون احتلاله بأهله وليس بالاستعمار المباشر كما فعلوا سابقا. فهموا أن الاستعمار غير المباشر بقوة أهل البلاد المستعمرة أقل كلفة من الاحتلال المباشر. فلسطين اليوم محتلة بصورة غير مباشرة. بأبنائها مثلها مثل كل بلاد العرب. والثورة تحاول الحسم مع الاحتلال غير المباشر. هذا هو المشكل.

Exit mobile version