مختار صادق
قرار “ترامب” ببدء نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في اسرائيل من تل أبيب إلى القدس المحتلة اعترافا و تثبيتا للوقائع على الأرض قد يكون بحجم خطورة وعد “بلفور” الذي صدر منذ قرن والذي وعد من خلاله وزير خارجية بريطانيا (أقوى دولة في العالم في ذلك الوقت) يهود أوروبا بوطن لهم كتكفير عن ذنوب أوروبا المسيحية التي أعدمت اليهود شيوخا ونساء ورجالا وأطفالا بالآلاف في بيوت الغاز ومخيمات التطهير العرقي الأوروبية بلا شفقة ولا رحمة. مائة عام منذ ذلك الوعد المشؤوم عندما كان اليهود مهددون بالإنقراض وبتخطيط بعيد المدى وصبر صارم تغيرت الصورة فأصبح سكان فلسطين الأصليون مشتتين في العالم ليحتل أرضهم شتات اليهود. الاسرائليون وصلوا إلى إعلان “ترامب” اليوم بعد كثير من العمل الدؤوب والتخطيط المحكم بينما العرب بكثير من الغضب والانفعال يخسرون بالنقاط الجولة تلوى الأخرى. هم في الداخل يبنون المستوطنات ويهوّدون القدس على نار هادئة وفي الخارج يربطون العلاقات مع زعماء العالم بطرق شتى بينما العرب مشغولون في قمع شعوبهم ومحاصرة بعضهم البعض. حتى نفهم دوافع هذا القرار لنلقي نظرة على الدائرة الضيقة حول “ترامب” ذات التأثير عليه بخصوص العلاقة الامريكية الإسرائيلية:
• “جارد كوشنر” (Jared Kushner) مبعوث “ترامب” للشرق الأوسط والمكلف بمسار “التسوية” في المنطقة. هو يهودي ملتزم كان جدوده قد هاجروا من روسيا البيضاء إلى نيويورك منتصف القرن الماضي هروبا من “الهولوكوست”. وقد ساهم في حملة “ترامب” الرئاسيه وأشرف على الجانب الرقمي لها فكافأه “ترامب” على ذلك بأن عينه مستشارا خاصا بعد فوزه بالرئاسة. وقبل هذا فهو صهر “ترامب” متزوج من ابنته “ايفانكا”.
• “دافيد فريدمان” (David M. Friedman) وقد عينه “ترامب” فور توليه الرئاسة سفيرا لأمريكا في اسرائيل وهو صهيوني متطرف. نشأ في عائلة يهودية متدينة حيث شغل أبوه منصب كبير الأحبار بولاية “نيويورك”. وقد ترأس “فريدمان” جمعية “مستوطنات بيت آل” التي تبرعت بأكثر من مليوني دولار لمستوطنة “بيت آل” اللاقانونية (بمعيار الامم المتحدة) بمدينة القدس. وقد لاقت تسميته كسفير لأمريكا بإسرائيل معارضة واسعة حتى من منظمات يهودية لأن مواقفه المتطرفة تمثل انسلاخا كاملا عن مواقف الخارجية الأمريكية التقليدية في الشرق الأوسط وخطرا على أمن اسرائيل فهو يدعو إلى مواصلة بناء المستوطنات اللاقانونية في الضفة الغربية والقدس ونقل سفارة أمريكا بإسرائيل إلى القدس. يذكر أن “فريدمان” كان قد تعرف على “ترامب” من خلال عمله كمحامي متخصص في قضايا الإفلاس المالي وقد مثل “ترامب” في قضية إفلاس سابقة له في إحدى محلات القمار التي كان يملكها بـ”نيو جيرزي”.
• “جاي ساكولو” وقد نشأ في عائلة يهودية في مدينة “نيويورك” قبل أن يعلن لاحقا تحوله إلى “اليهودية المسيحية”. ومن خلال عمله كمحامي متخصص في الدفاع عن المنظمات المسيحية المحافظة وكوجه إعلامي كون ثروة هائلة وصداقة خاصة مع “ترامب” وهو الآن يرأس فريق الدفاع الذي انتدبه “ترامب” لمواجهة لجنة التحقيق المستقلة برئاسة مدير المكتب التحقيقات الفيدرالي السابق “روبرت مولر” التي أنشأها الكونغرس للتحقيق في تهمة “التواطؤ” (collusion) مع الروس لتشويه “كلينتون” منافسة “ترامب” في الرئاسية وبالتالي إعانة هذا الأخير على الفوز وهو ما تم فعلا. وقد وقع إثبات التدخل الروسي في العملية الإنتخابية عن طريق انشاء صفحات وشخصيات وهمية على صفحات التواصل الإجتماعي تدعم أجندة اليمين المتطرف الداعم “لترامب” على حساب منافسته “هيلاري كلينتون”. وتقتصر مهمة “روبرت مولر” على التحقيق في إمكانية تواطؤ حملة “ترامب” الانتخابية وتنسيقها مع الروس. وإذا وقع إثبات هذه التهمة فإن ذلك يعني إجبار “ترامب” على مغادرة البيت الأبيض قبل انتهاء مدته القانونية في ما يعرف بإجراء العزل أو “impeachment”. ونظرا لخطورة التهمة فقد كلف “ترامب” محاميه الشخصي “جاي ساكولو” بمهمة الدفاع عنه.
دون الدخول في بقية شبكة العلاقات المماثلة يكفي تصور عمل هذا الثالوث المتطرف القريب جدا من الرئيس ودورهم في إعلان “ترامب” الأخير. في المقابل فإن الوضع الرسمي العربي قد نزل إلى مستويات غير مسبوقة من التردي والانحطاط. فعوض الضغط على “ترامب” ولجم مواقفه المائلة كل الميل لفائدة اسرائيل فإن العرب عقدوا معه صفقة لشراء طائرات وأسلحة بمبالغ خيالية تفوق النصف ترليون دولار! الأنظمة العربية على بكرة أبيها إما غارقة في مشاكلها الأمنية والإقتصادية أو تخطط لإحداث الفوضى ومحاصرة بعضها البعض بعيدا عن أي تنسيق لمواجهة التغول الإسرائيلي بالمنطقة. وبالرغم عن كل هذا الهوان الرسمي العربي فهناك العديد من المؤشرات الإيجابية لو يفلح العرب وخاصة المخلصين منهم للقضية في التقاطها:
“ترامب” ليس بالقوة التي يريد إظهارها للعالم فمنذ تراجع دور أمريكا بعد حرب الخليج وافغانستان وفشلها في سوريا وبروز قوى دولية وإقليمية اخرى مثل روسيا والصين وإيران وتركيا والبرازيل وجنوب افريقيا وغيرهم فإن سردية اسرائيل المدعومة أمريكيا وغربيا عن مظلومية اليهود و”إرهاب” العرب لم تعد قدرا محتوما. كذلك فإن “ترامب” يواجه مشاكل داخلية معقدة قد تنتهي بعزله من الرئاسة وحتما ستقلم أظافره مثلما بدأ ذلك في الظهور بالأمس حيث فشل مرشح الجمهوريين “روي مور” والمدعوم شخصيا من “ترامب” في الفوز بمقعد مجلس الشيوخ عن ولاية “ألاباما” المحافظة ليفوز الديمقراطيون بهذا المقعد بعد آخر انتصار لهم هناك منذ ربع قرن.
تاريخيا فإن المقاومة وحدها هي التي مرّغت وجه الاحتلال في التراب وهي وحدها من بإمكانها استرجاع حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة. لكن لا يخفى على أحد الإمتحان العسير الذي مرت به المقاومة أخيرا في سوريا وتدويل الصراع هناك. المطلوب عدم التركيز على نقاط الإختلاف والالتقاء حول القضية المركزية للعرب والمسلمين والعمل على الاستفادة على جميع الأصعدة من كل القوى سواء كانت إيران أو تركيا أو غيرها لدعم المقاومة. بعض الأنظمة العربية تختلق الإختلافات المذهبية لتحويل أنظار شعوبها عن المشاكل الحقيقية ومنها الحق في العيش بحرية وكرامة ومناصرة القضية العادلة. كذلك فإن بعض من ألبسوا أنفسهم نظارة “الإستراتيجيا” لا يتورعون عن قذف غيرهم بالعمى الإستراتيجي لتباين المواقف بينهم في لحظة ما في مكان ما والحال أنهم جميعا يناصرون نفس القضية الأم. إذا كان هناك من درس نتعلمه من اليهود فهو القدرة على تجاوز الخلافات الداخلية والإستفادة من كل التناقضات في العالم وتحيّن الفرص التاريخية. الأنظمة العربية فشلت في كل وعودها بتحرير فلسطين. لكن الأمل معقود على الشعوب وعلى رأسها الشعب الفلسطيني المرابط لخلق مجالات جديدة ومتنوعة لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي بكل الطرق. يبقى الإقرار بأن المقاومة قد تزيل الإحتلال ولكنها لا تبني الأوطان وهذا موضوع آخر للنقاش!