عن حزب الله وإيران والقدس…
نور الدين الغيلوفي
اعتذار لأنصار الممانعة:
ليعذرني أصدقاء الممانعة، فأنا لست خصما لحزب الله ولا عدوّا لإيران ولا مناوئا للمذهب الشيعيّ، فأنا أؤمن بالاختلاف، وأحبّ التنوّع لا ادّعاءً ولا مداراةً، ولكن لأنّني أرى أنّ الحرية شرط لا يكون الإنسان إلّا به.. ومن الحرية أن يتّسع الأفق لجميع مظاهر الاختلاف وأن تكون الحرية قسمة عادلة بين الجميع…
وليعذرني أصدقائي الممانعون، فأنا قد تعلّمت على مفكّرين إسلاميين من المذهب الشيعيّ من الذين كنت أقبل على كتاباتهم في زمن الشباب دون أن يكون لي مشكل مع المذاهب وتناقضاتها في التنظيرات وفي التجربة التاريخية..
كنا، ونحن شباب، نقرأ للشهيد محمّد باقر الصدر وللمفكّر الكبير علي شريعتي ولمرتضى مطهّري ونفيد من المؤرّخ إبراهيم بيضون من لبنان.. وغيرهم كثير.. كنّا نتلهّف على كتب هؤلاء نصيب منها جميع ما يقع بين أيدينا.. وأنا لا أزل أقبل على أفكار قادمة من هناك فلا أجد اختلافا مع أحمد الكاتب.. وأجد ما يفيدني في أفكار محمّد مجتهد الشبستري وفي أطروحات عبد الكريم سروش وحتّى في ما يقدّمه أحمد القبّانجي.. ولست أراني أختلف مع كثير ممّا يأتي به هؤلاء من أفكار وتنظيرات.. ولقد كنت، ولا أزال، من محبّي عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهَه وفاطمة الزهراء وممّن يُجلّون ذريتهما ويرون في الحسين بن علي رضي الله عنهما عنوانا لمجتمع الفضائل التي أصبو إليها بعيدا عن منطق الوصاية والولاية وما يستدعيه من صراع عنيف بين جناحي أمّة ذهبت بريحها الصراعات حتّى قدّمتها لأعدائها لقمة سائغة…
وليعذرني أصدقاء الممانعة فأنا أحترم الأمة الإيرانية وأرى أنّ من حقّها أن تعمل لأجل مصالحها وأن تكافحَ لاستعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية التي استوعبها الإسلام.. وأتفهّم سعيها إلى أن تبنيَ نفسها وتثبت منَعَتَهَا بعيدا عن الحالة العربية المتردية.. فالعرب أمّة خارج التاريخ لا ينتفع أحد بإضافتها إلّا أن يأتيَ ناهبا لخيراتها…
حسن نصر الله.. ما ضرّ لو كان سكت:
في خطابين مختلفين للسيد حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبنانيّ بيّن أمورًا كثيرة تتعلق بدوره في المنطقة، في ظلّ ما تشهده من حوادث، وكشف عن منزلة القدس لدى حزبه الذي يُعرف لدى الجميع بأنه رأس حربة محور الممانعة في المنطقة العربية…
– قال السيد حسن نصر الله في خطاب أوّل له يتحدث عن سوريا:
(إذا كان عندنا مائة مقاتل في سوريا حيصيروا مائتين.. وإذا كان عندنا ألف مقاتل في سوريا حيصيروا ألفين وإذا كان عندنا خمسة آلاف مقاتل في سوريا حيصيروا عشرة آلاف.. وإذا احتاجت المعركة مع هؤلاء الإرهابيين التكفيريين أن أذهب أنا وكلّ حزب الله إلى سوريا سنذهب إلى سوريا.. نحن الذين نحسم المعركة.. نحن الذين نوقّت ختام المعركة…).
– أمّا في خطابه في شأن القدس بعد قرار ترامب اعتبارها عاصمة دولة الاحتلال الصهيونيّ، فقد قال السيد حسن نصر الله:
(لا يستهن أحد ولا يستخفّ بالموقف ولا بالبيان ولا بالخطاب ولا بكلّ أشكال الشجب والاحتجاج.. كل إنسان حرّ وشريف في العالم وليس فقط في العالم العربي والإسلامي وعلى مدى أيّام بل على مدى أسابيع إذا كان كلّ “القاعدين” على مواقع التواصل الاجتماعيّ يدينون ترامب وما قام به ويؤكدون على أن القدس عاصمة أبدية لدولة فلسطين ويرفضون تهويد القدس.. بيطلع مئات ملايين التغريديات مثلا.. مئات ملايين المواقف على مواقع التواصل الاجتماعيّ وخلال أيام وخلال أسابيع.. هذا عندما ينعكس على الإدارة الأمريكية وعلى الكيان الصهيونيّ فيحوّل الفرحة إلى غمّ…).
إنّ المقارنة بين الخطابين ناطقة بنفسها.. ولهجة السيد فيهما تحيل على موقفين مختلفين من جهات عدّة: نبرة الصوت وتكرار العبارات وتباعد الأعمال القولية الواردة بهما.. ولا يحتاج من يسمع الخطابين عناء كبيرا ليدرك أنّ مسافة شاسعة تفصل بين لحظتين مختلفتين لزعيم فصيل مقاوم يحكمه السياق وتوجّهه استرايتيجية مستعمليه…
الثورات العربيّة تربك حزب الله:
كنا نقدّر حزب الله ونعجب بزعيمه حسن نصر الله ومن قبله بعبّاس الموسويّ وراغب حرب.. ونفتخر ببطولاتهم التي حوّلت هزائم الأمّة إلى انتصارات في لحظة من لحظات الصعود صارت ماضيا.. ولم نكن نرى مشكلا في ما يصرّح به السيد حسن نصر الله من ولائه المطلق لأطروحة ولاية الفقيه التي تعتمدها الجمهورية الإسلامية في إيران رغم إيماننا بأنّ الولاية للشعب وحده وليست لأحد سواه.. قبلنا بذلك في سياق احترام حرية المختلف وانتصرنا لأطروحة حزب الله في الميدان وفي الفهم السياسيّ وانحزنا إلى تحالف 8 آذار الذي كان من أهمّ مكوّناته في مواجهته لتحالف 14 آذار.. في إطار تفاعلنا مع الداخل اللبنانيّ إثر اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريريّ…
غير أنّ لحظة الثورات العربية كانت حدّا فاصلا وامتحانا صعبا لكثير من قناعات الماضي ومواقفه.. فمن آثار هذه الثورات أنها لم تبق على شيء في مكانه وقد تسرّبت حتى إلى الأمزجة فحرّكتها وإلى الأفكار فشوّشتها وخلطت الأوراق كما لو أنّ توافقات وتفاهمات لم تتمّ بين مختلفين قبل ذلك وكما لو أنّ تحالفات لم تتشكّل..
قبل الثورات كان حزب الله اللبنانيّ فصيلا ثوريا مقاوما يناضل من أجل التغيير والتحرير وبعد الثورات تحوّل إلى أداة في يد نظام مجرم لوأد ثورة الشعب السوريّ المطالب بحرياته مثل بقية الشعوب الحرّة في العالم…
النظام السوري والقضية الفلسطينية: وهم الممانعة:
لقد كان النظام السوري، منذ عهد حافظ الأسد، أكبر مستفيد من القضية الفلسطينية ومن أكبر المتاجرين بها.. وبقدر ما كانت سوريا ملاذا لكثير من الفصائل الفلسطينية المقاومة ولقياداتها بقدر ما كان منطق التوازنات يجعل من جميع هؤلاء كالأسرى لدى النظام السوري يحسّن بحضورهم على أرضه شروط تفاوضه مع مختلف الأطراف، حتى بات مجرّد إيواء القيادات الفلسطينية عنوانا للممانعة.. وفي ظلّ ذلك كان الناس يتغافلون عن حالة القتل الممنهج التي يتعرض لها الإنسان السوري في ظلّ نظام قمعيّ لا منزلة عنده للإنسان ولا اعتراف منه بحقوقه.. “فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.. ولا معركة ولا هم يحزنون.. وظلّت شعوب عربية بكاملها أسيرة لدى أنظمة تعدّ لمعركة لا وجود لها ولا محلّ لها بين وقائع التاريخ.. وقد اطمأنّ العدوّ الصهيونيّ إلى نظام فارقت اقوالُه أفعالَه، لأنّه لم ير منها سوى طبول جوفاء لا تضرّ عدوّا ولا تنفع صديقا..
ثلاثة أمور كانت كافية لتدلّ على أن النظام السوري لم يكن يختلف في شيء عن غيره من الأنظمة الأخرى المصنَّفة عميلة وغير وطنية حسب توصيف ورثة الممانعة والأوصياء على قضية العرب المركزية إن لم يكن أقبحها:
الأول: تعرّض الأراضي السورية لضربات متتالية من قبل العدوّ الصهيوني واكتفاء النظام في كلّ ضربة بتصريح يكرّره “نحن نعرف متى نردّ”.. ولا ردّ ولا دياولو..
الثاني: تسليم النظام السوري الممانع بالأمر الواقع بعد هزيمة حزيران 1967 وبقاء هضبة الجولان محتلّة من قبل العدوّ الصهيوني ولا أفق لاستعادتها إلى الوطن السوري..
الثالث: جرأة النظام على انتهاك الدستور السوري حتّى يتولّى بشّار الأسد العرش بعد وفاة والده حافظ الأسد.. وقد كانت تلك الحركة ضربة قاصمة لجميع المعاني التي لها صلة بالممانعة والمقاومة والتحرير.
أعترف بأنّ بعض المثقَّفين المقرَّبين من النظام في سوريا كانوا بارعين في تحليلاتهم الجيو استراتيجية.. وقد نجحوا في تسويق خطاب انتهوا فيه إلى أنّ مصلحة الأمّة تكمن في تثبيت الأمر على ما هو عليه في منطقة الشرق الأوسط.. فتغيير أيّ حجر من البنيان السياسيّ القائم يفسد الخطّة الاستراتيجية لمحور الممانعة ويعطّل مشروع التحرير.. وقد كان يدعمهم في ذلك إبداع عناصر حزب الله في الميدان وتمكّنهم من إيجاع العدوّ الصهيوني لا سيما بعد نجاح المقاومة في التصدّي للعدوان الصهيونيّ وتحرير الجنوب اللبنانيّ الذي انسحبت الدولة العبرية منه سنة 2000 بلا أيّ اتفاق مع الجانب اللبنانيّ…
ورطة الحزب الأخلاقيّة: خطيئة الارتباط بالنظام السوري:
النظام السوري مثل غيره من الأنظمة العربية التي يقف مقابلا لها.. وإن كان يخالفها في مستوى الخطاب.. وذلك بما كان يبدو من تبنّيه “الكلاميّ” للمقاومة الذي لا تصدّقه الوقائع.. ولمّا قامت الثورات العربية وسرت نيرانها في هشيم الأنظمة أصابه ما أصابها.. ولقد ظلّت تلك الثورات “ثوراتٍ عربيةً” لدى بعض الدوائر المقرّبة من النظام السوري السائرة في المحور الإيراني حتّى إذا وصلته تحولت إلى “ثوراتٍ عبريةٍ”.. كأنّ سوريا كانت مدينة فاضلة لا يُظَلم عند نظامها أحد.. وكأنّ الشعب السوري، الذي انتفض في مختلف المحافظات انتفاضته السلمية طلبا لسقف أعلى من الحرية كغيره من الشعوب العربيّة.. كأنّه كان شعبا عميلا.. وانتشر لدى بعض الدوائر خطاب النظام السوري المرتجف من ثورة شعبه المصرّ على سحقها.. وبدل أن تُدعم الثورة تجنبا لإمكان تدخل الأطراف المتربصة بالأمّة واجه بشار الأسد شعبه بالنار فلّوث المناخ حتى انتشرت فيه فيروسات الإرهاب وتسرّبت إليه جراثيم المخابرات الدولية.. وصارت سوريا ساحة صراع دولي لتصفية الحسابات المتداخلة.. وبذلك نجح النظام في وأد الثورة السورية وتمكّن من استعادة الحياة له رغم الخراب الذي أصاب الدولة السورية…
نجح النظام بمساعدة عناصر حزب الله والدولة الإيرانية في العودة إلى الحياة بعد اّن أوشكت الثورة على الإطاحة به.. وبقي خطاب أنصار الممانعة مهتزّا على الصعيد الأخلاقيّ لأنّ تمسّك بشار بالسلطة كان أكبر من حرصه على سلامة الوطن.. وما الذي يعنيه حكم يُبنى على الخراب؟.. وهل ثمّة شيء يستحقّ كلّ ذاك الدمار الذي صارت إليه مختلف المدن السورية؟ وهل ثمّة سلطة تستحقّ، لأجل المحافظة عليها، أن يُشرَّد الشعب السوري بين بلدان العالم ويغرق أطفاله في البحار؟
تظلّ ورطة حزب الله كبرى بعد الذي فعله بالشعب السوري خدمة للنظام الحاكم وللأجندة الإيرانية التي لا يعنيها غير مصلحة الدولة الإيرانية بعيدا عن أية مصلحة أخرى.. وإيران التي شهدت حربا ضدّ العراق دامت ثماني سنوات هي نفسها التي يُسوَّق بعض الأيتام وقوفَها إلى جانب الممانعة العربية..
إيران ومعركة القدس:
صحيح أن الجمهورية الإيرانية قد كوّنت فيلقا عسكريا اسمه فيلق القدس ربطته بحركات التحرر ومنظمات المقاومة، ولكن ما الذي تعنيه فلسطين، وهي أرض عربية، لإيران في ظلّ التوازنات الراهنة؟ وهل يمكن أن تعمل إيران وأعوانها بالمنطقة لتحرير أرض عربية محتلّة؟ ولماذا؟
إذا قلنا إن فلسطين أرض إسلامية مقدّسة تعني إيران مثلما تعني غيرها اصطدمنا برأي الأطراف الممانعة الذي يقول بأنّ الصراع مع العدوّ الصهيوني إنما هو صراع سياسيّ وليس صراعا دينيا، ومثلما يعني المسلمين العرب فهو يعني المسيحيين العرب كذلك.. وإيران إذ تدعم المقاومة لأجل القضية الفلسطينية إنّما تساعد العرب على استرداد أرضهم.. ومن شأن ذلك أن يجرّ عليها عداوات الغرب الداعم للكيان الصهيوني دون أن يكون العرب قادرين على تقديم الفائدة لها.. وحتّى لو سلّمنا بالفرضية الدينية فإنّ إيران الإماميّة، وهي تعيش ما تعيشه من تناقض مع الطائفة السنيّة، إذا عملت على تحرير القدس فإنّها بذلك إنّما تقدّم هدية مجانية لخصوم مذهبها ولا تربح في المقابل شيئا.. وإذن تبقى القضية الفلسطينية لدى الدولة الإيرانية ورقة تلعبها لأجل استمرار تمدّدها في الأرض العربية كما تفعل الآن.. ورقة تلعبها في مقابل أنظمة عربية متخلّفة لم تقدّم دعما للفلسطينيين ويشتبه في اتفاقها مع الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترمب للتخلّي عن القدس والدفع باتجاه الاعتراف بها عاصمة للدولة العبريّة من أجل تحقيق ما يسمّى صفقة القرن التي تعدّ لها الإدارة الأمريكية الراهنة، هذا من جهة.. ومن جهة أخرى هي ورقة تلاعب بها دولة الكيان الصهيوني.. وهنا تحضر الدولة الإيرانية باعتبارها احتلالا ثانيا منافسا للاحتلال الصهيونيّ.. ويكون صراعها ضدّ الدولة الصهيونية صراعا بين كيانين محتلّين لمنطقة لم يعد يحكمها غير التابعين الخانعين.. ويبقى حزب الله مجرّد ميليشيا تابعة لطرف محتلّ يناور من أجل توسيع مكانته داخل المنطقة العربية المريضة التي يتنازعها المحتلّون…
لقد عرفت الإدارة الأمريكية ما آلت إليه الأوضاع بمنطقتنا العربية وعلمت أن الطريق باتت آمنة فأعلن رئيسها أن القدس هي عاصمة دولة الكيان الصهيوني في استهانة فاضحة بالأمة قاطبة حاكمين ومحكومين.. ولو كانت الإدارة الأمريكيّة تعلم أن إيران معنية فعلا بالقدس لقرأت لها حسابا ولما اندفع ترامب إلى الإعلان عن قراره…
حرّية الشعوب شرط التحرير:
لن تتحرر القدس حتى تتخلص الأمة من الانظمة المستبدّة.. وحده الشعب العربيّ، متى نال حريته، قادر على استعادة قبلته الأولى والزحف نحو قدسه.. وذلك لأنّ الحرية شرط للمقاومة.. ولا يتحقّق تحرير الأرض من الغزاة إلّا بعد تحرّر الشعوب من الطغاة.. وإذا تحرّر الشعب من طغيان الحكّام هان عليه بطش الاحتلال وسهل عليه حسم الأمر معه، لأنّ الاستبداد خادم للاحتلال.. ووحدها الحرية تجعل من الشعب سيّدا للمقاومة ومهديّ التحرير المنتظَر بعيدا عن الوصايات الملتبسة…