القدس وهم الدولة سر الهزائم الدبلوماسية
أبو يعرب المرزوقي
أن تنتصر إسرائيل عسكريا على الأنظمة العربية أمر مفهوم وخاصة بعيد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن لأنها لا تمثل دولا ذات سيادة وإرادة بل كانت محميات ولا تزال. وهذا وإن كان دليل تخلف علمي وتقني وتوازن القوى حينها، لكن أن تنتصر في المناورات الدبلوماسية ذلك ما لا أفهمه.
فقرار الأمم المتحدة الذي أنشأ إسرائيل أنشأ معها دولة فلسطينية وعين حدودا بمقتضى التقسيم. ومن رفض ذلك ليس شعب فلسطين لأنه لم يحز ما اعترفت له به “الشرعية الدولية”: لذلك ما زلت عاجزا عن فهم مطالبة الفلسطينيين بتطبيق قرارات دولية اتخذت بمقتضى حرب 67 وما تلاها من اتفاقيات مع العرب.
فالدولتان اللتان وقعتا اتفاق سلام مع إسرائيل هما بدورهما كانتا محتلتين مع إسرائيل لبعض ما اعترفت به الشرعية الدولية بوصفه جزء من دولة فلسطين التي أنشئت مع إسرائيل إذا ما استثنينا القدس التي حدد لها وضع دولي محايد يكون للأديان المنزلة الثلاثة.
وكان من المفروض أن يطالب قادة الشعب الفلسطيني بإخراج المحتلين لما أعطي لهم بمقتضى قرارا التقسيم عربا وإسرائيليين والا يقبلوا بنباح صوت العرب وعنتريات الانظمة العربية التي ما كان لهم أن يثقوا بها لتحرير أرضهم على الأقل بعد 67 لأن من عجز عن حماية أرضه لن يحرر أرض غيره.
ورغم أني لست فلسطينيا فإني أعتقد أن انضمام القيادات الفلسطينية إلى البحث عن حل بمقتضيات القرار الذي تلى هزيمة 48 وهزيمة 67 اعتبره من السذاجة الدبلوماسية. كمقاومة كان من المفروض التخلي خاصة عن عنتريات اليسار العربي الذي أفسد كل شيء اعتمادا على تغرير السوفيات سابقا وإيران لاحقا.
لا يوجد في التاريخ نصر تام وهزيمة تامة وخاصة في الدبلوماسية إلا في اذهان السذج. كل ما في الامر هو أن قيادات الثورة الفلسطينية اغترت بمناخ الصراع الدولي بين القطبين وظنت أن عنتريات السوفيات والانظمة التي تدعي القومية ذات أثر في الواقع الفعلي فتركوا ما كان يمكن أن يكون منطلق التحرير.
وإلى الآن ما يزال ذلك ممكنا: فما دامت إسرائيل قد تجاوزت قرار التقسيم وتنصلت من اتفاق أوسلو فلست أفهم علة مواصلة المطالبة بحل ما بعد حرب 67 رغم أن الفلسطينيين لم يكونوا طرفا في الحرب ولم تكن لهم دولة ملتزمة بالاتفاقية. هم حركة تحرير تطالب بتطبيق التقسيم لا شبه دولة تحمي إسرائيل.
سيقال أنت تحلم؟ نعم أحلم لكن حلمي أكثر واقعية من المطالبة بحل 67 واعتباره مرحلة للتحرير التام. ذلك أن هذا لو فرضناه حصل فهو سيصبح التزاما بأقل من التقسيم دون أن يكون قابلا للنكران لأن من سيمضيه يعتبر دولة منذ اتفاقيات أوسلو خاصة توازن القوى في الأفق المنظور بعيد المنال.
أرى أن القيادات الفلسطينية ما تزال مغترة بعنتريات إيران التي عداؤها للعرب أكبر بكثير من عداء إسرائيل بدليل أن إسرائيل لم تبتلع إلا بعض فلسطين في حين أن إيران ابتلعت الضفة الشرقية من الخليج والعراق وسوريا ولبنان واليمن ولعلها في طريقها لابتلاع الضفة الغربية من الخليج.
والمقارنة ليست مقصورة على الأرض. إسرائيل احتلت أقل من 1 %مما احتلته إيران واحتلالها قابل للرجع لأنه مادي خالص رهن القوة العسكرية. أما احتلال إيران فهو يتجاوز المادي الخالص لأنه يشيع ما احتله بل هو احتله بما فيه من التشيع المعادي للإسلام عامة وليس للعرب وحدهم.
والتشييع احتلال للأرواح قبل الأرض. واحتلال الأرواح لا يقبل الرجع مثل احتلال الأرض. لذلك فخطر إيران ألف مرة أكبر من خطر إسرائيل حتى وإن ضخمته إيران لتضخم دورها وتستعمل فلسطين ورقة في مساوماتها مع الغرب حتى يعطيها دورا مثل إسرائيل فتهضم ما احتلته قبل أن يفيق الغافلون من العرب.
سئمت العنتريات والغباء السياسي والهزيمة حتى في مجال المناورات الدبلوماسية ناهيك عنها في العسكرية. لما وقعت الأمة في الحرب الأهلية كان معاوية داهية العرب قد تنازل لبيزنطة وانشغل في إخماد الفتنة والانتصار في الحرب الاهلية. ومن يريد أن يعلم عداء إيران التشيع فلينظر مواقفهم منه.
ولا يعني أن أدعو لمهادنة إسرائيل لأن إيران أخطر منها. من يعتقد ذلك هم السذج الذين يعتقدون أن العلاقات الدولية تخضع للثالث المرفوع: إما عدو أو ليس عدو وكان ذلك دليل تناقض. إسرائيل عدو وليس لها ما لإيران من قدرة على التغيير الروحي للشعوب وأثرها في عملاء النخب يتعلق بقلة مأجورة.
فالليبراليون العرب لا وزن لهم مثلهم مثل الأنظمة العميلة. واليسار والقوميون يكفي دليلا على حماقتهم أنهم يساعدون إيران لاحتلال الهلال كله باسم محاربة إسرائيل التي لم يمسوا منها شعرة. فما يسمونه مقاومة العدو الإسرائيلي فضحته الثورة وأنهته قضية القدس الحالية.
قيادات فلسطين ولا أستثني أحدا منهم “تفتحنوا” وفقدوا كل نفس ثوري لأن مجرد اندماجهم في دبلوماسية العرب أو دبلوماسية إيران يفقدهم أهم شروط نصر الحركة لرضاهم بوهم دولة هي محمية بل حامية للمستوطنات. مقاومة فلسطين حتى لو كانت سلمية أمضى ألف مرة من عنتريات إيران ونفاق العرب والمسلمين.
وفي الحقيقة ما زلت إلى الآن لا أفهم كيف يمكن أن يوجد في المقاومة الفلسطينية مثل ما نراه في بلاد الربيع أمراء حرب لا يوحدهم إلا العنتريات حول الرد المزلزل في الوقت المناسب. فيكون كلامهم حجة عليهم تخدم كل دعاية إسرائيلية. وهم سيخسرون كل ما حققوه بالقانون الدولي بأسلمة لفظية.
فالأسلمة الصادقة لا تحتاج لأن تصبح أداة تهديد. هي من الدوافع الروحية وينبغي أن تحدث دون قرع طبول من اليسير اتهامها بالإرهاب الذي كاد يقضي على الربيع ويمكن أن توظفه إسرائيل فيقضي على القضية الفلسطينية. يكفي أن تكون الأسلمة قلبية ووجدانية دون تضييق أفقها في العنتريات السياسوية.
ينبغي ألا يعتقد أحد أن الغرب يسكت على إرهاب إيران وعنترياتها واستعمالها للدين علنا لأنه يخشاها بل هو يفعل لأنها في العمق حليفته الحقيقية التي لولاها لما صار العرب الآن أضعف روحيا وماديا مما كانوا عليه في حرب 48 و67. وليست هذه أول مرة اعتمد أعداء السنة على إيران وعملائها.
لذلك إن أي عربي وأي سني يعتقد أن إيران معادية لإسرائيل وللغرب ومدافعة عن الإسلام وعن فلسطين إذا لم يكن ساذجا بل وغبيا فهو من دون شك عميل يعلم الحقيقة ويسكت عنها لأنه مثل جل الأنظمة لا يعنى إلا جيبه وكرسيه وما يتفضل عليه به من دور في لعبة الغدر بشعوب الإقليم وأمة الإسلام.
لم يبق عندي ما أقوله في قضية القدس بعد هذه المحاولة واللتين سبقتاها. وكل هذا قلته لأغلب قادة فلسطين كتبته في رسالة مفتوحة إلى المرحوم ياسر عرفات. صحيح أن الوضع العربي قد يكون حال دون القيادات الفلسطينية والتحرر من التدخلات العربية والإيرانية. لكن العلة هي الحرب بين أمراء الحرب.