السبت 15 مارس 2025
محمد المختار اللافي
محمد المختار اللافي

وثيقة المدينة وحقوق الإنسان

محمد المختار اللافي

ما معنى حقوق الإنسان؟
(يمكن تعريفها بأنها المعايير الأساسية التي لا يمكن للناس من دونها أن يعيشوا بكرامة كبشر. ويوجد الأساس الذي تقوم عليه حقوق الإنسان، مثل احترام حياة الإنسان وكرامته، في أغلبية الديانات والفلسفات).

ويمكن تصنيف حقوق الإنسان إلى ثلاث أجيال:

الحقوق المدنية والسياسية (الجيل الأول): وهي مرتبطة بالحريات، كالحق في الحياة والتنقل والأمن وعدم التعرض للتعذيب …
الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (الجيل الثاني): وتشمل العمل والتعليم والمستوى اللائق في المعيشة والمأكل والمسكن والرعاية الصحية.
الحقوق البيئية والتنموية (الجيل الثالث): وتشمل حق المعيشة في بيئة نظيفة ومصونة من التدمير والتلوّث.

وثيقة المدينة
وثيقة المدينة

تاريخ موضوع حقوق الإنسان:

أ. النشأة والتطور:

– قانون حمورابي: ضبط معايير السلوك وأمّن العدل لإمبراطوريته في بلاد الرافدين. (بابل بحدود العام 1726 ق.م) هذا القانون مكوّن من مقدمة وخاتمة طويلتان ومن 282 مادة قانونية. ولدى مقارنة نص القانون مع أسفار التوراة فوجئ العالم بمقدار الشبه الكبير بينهما ولكن كان فيها كثير من الأحكام الغريبة والمروعة والشاذة.

– الوثيقة العثمانية: لقد كان إعلان الخليفة العثماني محمد الفاتح لحقوق الإنسان سابقا لإعلان الثورة الفرنسية. فقد أصدر وثيقته المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات الدينية في 28 ماي 1463م، مستلهما فيها روح صحيفة المدينة والعهدة العمرية، ونصت على “حرية واستقلالية المؤسسات الدينية وأتباع الأديان المختلفة، واحترام الملكية الخاصة”. وتوجد منها عدة نسخ أصلية لدى الكنيستين الصربية والكرواتية في مدينة فوينتسا (وسط البوسنة) السياحية.

– “إعلان الإنسان والمواطن”: ما صدر خلال الثورة الفرنسية سنة 1789م، من حديث عن الحرية والعدالة والمؤاخاة كنقيض لنظام الإقطاع وتحالف الكنيسة مع السلطة الزمنية (الأسياد) ضد العبيد (الأقنان). ومن هنا نشأت الفلسفة العلمانية نقيضا للدّين في بيئتها.

ب. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:

الصادر في 10 ديسمبر1948 وقد ورد في الديباجة: “ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا التعهد فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.
ولكن الوثائق التي صدرت عن منظمات دولية كالأمم المتحدة قد صدرت بتأثير دول كبرى لم تضع في حسبانها من الناحية الواقعية، حقوق الدول الكثيرة التي كانت تخضع آنذاك للاستعمار في قارات العالم المختلفة، وأنه لم يترتب آليا على هذه الوثائق تخلي هذه الدول الكبرى عن احتلالها لغيرها من الشعوب، بل كان على الشعوب أن تخوض حروب الاستقلال ضد تلك الدول المغتصبة لحرياتها، ولم تظفر بها إلا بعد ما قدَّمت تضحيات كبرى لنيل حقوقها في الحرية والكرامة الإنسانية.

– المبادئ العامة: تتكون من ديباجة و30 مادة

تقول المادة الأولى: “يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميرًا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء”، فما كانت حقيقة ممارسات المستعمرين ومصادرتهم لإرادة الشعوب؟؟؟
وغيرها من حق الحياة والحرية والمساواة …
ولهذا لابد من استحضار الإطار التاريخي لصدور البيان وخصوصية فضائه الحاضن (سلطة الكنيسة المشرعنة للإستبداد وفلسفة هيغل الاستعلائية: النخبة والعامة).
“حقوق الإنسان مقاصد شرعية”:
و)الشعار: َمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ) الأنبياء 107.
يقول ابن قيم الجوزية في كتابه “إعلام الموقعين عن رب العالمين”: (فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدْل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة الي المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة) (1/14 و1/195).
ومن ذلك:
“ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً”سورة الإسراء 70، مبدأ الكرامة
“لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ “سورة الحديد 25 مبدأ العدل
“لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ” 256سورة البقرة “ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ” يونس 99، مبدأ حرية المعتقد ومسؤولية الاختيار
قال الامام أبو حامد الغزالي: ” ان مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم.. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة.. وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة.. وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليها ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق” وطبعا الحصر هنا لا يُغلق باب الاجتهاد في مقاصد الشريعة.

وثيقة المدينة: (المبادئ الدستورية العليا):

لا يمكن الحديث عن مبادئ وثيقة المدينة بمعزل عن المبادئ الإسلامية لأنها تلخيص وتجسيد لمقاصد الإسلام من تكريم الإنسان (الوثيقة هي الركيزة الثالثة مع بناء المسجد والمؤاخاة التي أقام عليها الرسول (ص) الدولة الإسلامية: قانون ومؤسسة وعدل إجتماعي).
هذه الوثيقة نظمت العلاقة بين سكان المدينة (أمم) بكل انتماءاتهم (المسلمين واليهود والمشركين) في حقوقهم ومعتقداتهم وواجباتهم تجاه بعضهم ونحو الدولة الفتية، سلما وحربا وتمويلا وخدمة.
يقول الدكتور عون شريف قاسم في كتابه “نشأة الدولة الإسلامية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم” في صفحة 25: (أورد ابن هشام وغيره من العلماء (ابن عُبَيْد وابن كثير) هذه السلسلة من الوثائق كعقد متكامل بين المهاجرين والأنصار من جهة وبينهم وبين اليهود من جهة أخرى، وتشير الطريقة التي نقل بها النص في المصادر المختلفة، وعبارات التقديم التي صدّره بها الرواة إلى أن النظر اتجه منذ القدم إلى اعتباره نص وثيقة واحدة وقد كتبت في مرة واحدة. والأرجح أنها كتبت في أوقات مختلفة باعتبار بعضها إضافات وتنقيح لهذه الوثيقة الدستورية بدخول أطراف جديدة أو انسحاب البعض).
ما نصت عليه الوثيقة من فصول تنظم العلاقات بين كل سكان أهل المدينة في الحرب والسلم والمعاملات الاقتصادية وضمان حق المعتقد والممارسات التعبدية وحفظ أمن المدينة. وبهذا ضَبطت الوثيقة الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية: حقوق الحياة والحرية والمساواة والعدل وحرية الاعتقاد وحرية التنقل وحق الأمن وحرية التعبير وحقوق المواطنة…

ملاحظة هامة: لابد من التمييز بين قدسية النص ونسبية التجربة البشرية بتنزيل النص على الواقع “بشرا رسولا”
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) الفرقان 20.
ولكن يبقى السؤال الباحث عن إجابة: لما التأخير في بلورة المقاصد الشرعية في منظومة قانونية ذات بُعد إنساني؟ أم أنّنا لسنا في مستوى روح الخطاب القرآني وتقدمية التشريع النبوي؟
اللهم صل على الحبيب المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الإحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
مدنين في: الجمعة 12 ربيع الأنور 1439 هـ/01 ديسمبر 2017 م.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق