تونس المغادرة وتونس القادمة
عبد القادر الونيسي
أخذت مكاني في الطائرة المتجهة إلى باريس. وقفت عند رأسي إمرأة تجاوزت الخمسين تأمرني دون أدب بصوت أجش متحشرج أن أبتعد لتأخذ مكانها هي وصديقتها في المقعدين المجاورين.
وقفت مشدوها من صفاقتها داعياً لها بالهداية فردت علي بكل هنجية: ربي يهديك أنت فأجبت: امين.
جلست وأنا أسأل الله أن “يعديها على خير”.
ما إن أقلعت الطائرة وبدأ المضيفون في بيع بضاعتهم (رحلة صنف شارتير) طلبت رفيقتي زجاجة خمر أمام دهشة الجميع بما فيهم المضيف وبدأت في شربها بكل استفزاز.
سمعت همسا خافتا من ورائي يناديني فإذا هي شابة تحمل رضيعا كالقمر قالت لي وهي تبتسم “الله يصبرك”.
ابتسمت للرضيع وسألت عن إسمه ودعوت له بالصلاح.
بدأت المجاهرة بالمعصية حديثا مع صاحبتها عنوانه الأبرز دورها في اعتصام باردو “اعتصام الروز بالفاكية” وما قامت به من تحشيد ومن جهد لقطع الطريق على النهضة مع عبارات تفيض كرها ونقمة على “الإخوانجية”.
ختمت حديثها بالتحسر والتندم على جهد أدى في نهاية المطاف إلى التوافق.
اكتشفت لحظتها كم كنت غافلاً عن مزايا التوافق وحسناته وما أحدثه من زلزال في قلوب ملة الحقد والإستئصال.
تضيق نفسي بالحوار الدائر في مرمى أذناي فالتفت بين الحين والآخر إلى الصبي لأسلي نفسي بالنظر إلى وجهه الملائكي فيبتسم لي فألاعبه فيضحك عاليا فأتذكر قولة فيكتور هيڨو “لا شئ في الدنيا أجمل من ضحكة صبي”.
مباشرة وراء كرسي الرضيع وأمه شاب كلما التفت إلا وانفجر ضاحكا.
سألته بعدها عن سبب ضحكه فقال لي أتخيل ما تعانيه من ضيق وأمام عجزي عن مساعدتك انفجر ضاحكا.
ضحكت من ضحكه وأنا أقول “ولله في خلقه شؤون”.
حطت بنا الطائرة فطلبت مني أم الرضيع أن أساعدها في حمل حقيبتين لتتفرغ للولد بعد أن أصبحت تناديني على لسان ابنها “بابا عزيزي”.
في طريقنا إلى الخروج طلبت منها أن تقرأ على مسامع ولدها كل ليلة قبل النوم ما تيسر من القرآن والأدعية ليقيني أن الذي هداني لباب المسجد بعد الله هو ما كانت الوالدة رحمة الله عليها تردده وأنا صبي على مسامعي من قرآن وترنيمات في مدح خير البرية.
ودعتهما ويقيني أن العجوز المجاهرة بالمعصية هي تونس المغادرة والولد الملائكي وأمه هي تونس القادمة.