الطيب الجوادي
كنّا في القسم مساء ذلك اليوم الخريفي الحزين، حين ادلهمت الأجواء فجأة وأظلم الكون وانفتحت ابواب السماء عن أمطار طوفانية لا عهد لنا بها، ولم يمض وقت طويل حتى تحولت القرية إلى بحيرة كبيرة، وفاض النهر والاودية الفرعية التي ترتبط به.
طلب منا سيدي عبد الكريم ان نلازم مقاعدنا، في انتظار ان يقل منسوب المياه ونتمكن من العودة لمنازلنا، ولكن الامطار لم تتوقف، وداهمنا الظلام لتغرق القاعة في السواد المطبق نظرا لانعدام الكهرباء، جاءنا سيدي المدير بشمعة، أشعلها ثم وضعها على مكتب سيدي عبد الكريم الذي حاول ان يشيع فينا الطمأنينة ويخفف من هواجسنا فطلب منا ان نروي له حكاية ممتعة من مطالعاتنا! رفع محمد ولد خالتي ليامنة إصبعه، وعندما أذن له سيدي بالكلام اندفع في بكاء مرّ وهو يردد من بين دموعه :
– سيدي، يمّة ضريرة وتعيش وحدها في كيم، لكان ما نروّحش ليها الليلة تموت.
وأُسقط في يد سيدي، وفي أيدينا جميعا، فلم يكن من الممكن التواصل مع أي كان خارج المدرسة لمساعدة العجوز، ولا مساعدتنا نحن المنقطعين عن العالم، ولا مساعدة سكان القرية، خاصة وقد جرفت المياه الجسر القريب من مدرستنا.
رحنا نواسي محمدا ونواسي بعضنا، فقد كنا نسكن جميعا أكواخا آيلة للسقوط ولا يمكن أن تجابه الطوفان، ساد صمت ثقيل القسم، وراح بعض التلاميذ ينشجون ويلحون أن يسمح لهم سيدي بالخروج، للالتحاق بأسرهم، ولكن سي عبد الكريم كان جازما: لا يخرج احد من القسم في هذا الظلام الدامس وفي مثل هذه الأمطار الطوفانية.
ولا يعلم أحد إلى اليوم كيف تمكن محمد ولد خالتي ليامنة من التسرّب خارج القسم في غفلة من الجميع، ولم يتم العثور على جثته إلا بعد أربعة أيام من البحث الدؤوب.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.