عبد اللطيف علوي
كم أكره النّظام. كلّ أشكال النّظام، بما في ذلك النّظام داخل البيوت…
وأكثر من كرهي للنّظام، أكره المرأة المهووسة بالنّظام، المرأة الّتي لا ترى لحياتها سببا إلاّ أن تجعل حقّة القهوة في مكانها بالضّبط إلى جانب حقّة السّكّر، على يمينها، ووراءها حقّة الملح وبعيدا عنها بسنتيمترين حقّة التّوابل…
المرأة الّتي تعتقد أنّه إذا تحرّكت مخدّة بيت الصّالة قليلا عن موضعها أو انقلبت على ظهرها أو انثنى جزء من طرف الزّربيّة أو حدث، لا قدّر الله، أن انقلبت “الشلاكة” في عتبة الباب بشكل بالغ الإيذاء، أو أو أو… المرأة الّتي تعتقد أنّه إذا حدث شيء من ذلك فهي علامة على قيام الزّلزال، المرأة الّتي تتوقّع دائما أنّها في كلّ لحظة قد تكون ضحيّة لغارة يقوم بها زوّار إلى بيتها، هم في الأصل غير مرحّب بهم في كلّ الأوقات رغم الحفاوة الدّائمة، لكنّها تقرأ لهم حسابا في كلّ كبيرة وصغيرة، فلا يجب أبدا أن يروا الإطار معوجّا مليمترا واحدا أو الشراشف مائلة أو الكأس فوق التلفاز أو دمية البنت الصّغيرة مستلقية على ظهرها رافعة رجليها…
المرأة الّتي ترى الغبار في كلّ شيء، على التّحف -إن وجدت- وفي الكؤوس التي لم تستعمل أبدا داخل الخزانة المغلقة، وفي أبعد التّراكن المخفيّة الّتي لا تصل إليها الملائكة ولا الشّياطين، وترى حبّة الغبار المتناهية الصّغر على شاشة التّلفاز وعلى أنف زوجها وداخل طبلة أذنه… فتسارع إلى إعلان حالة الطّوارئ والتّعبئة العامّة وتستدعي حتّى جنود الاحتياط وتعلن عن فتح باب التّطوّع لمجابهة الكارثة…
أكره البيوت المنظّمة، ولا أشعر بالرّاحة داخلها ولا بالأمان… أشعر أنّها مثل مقابر النّصارى في البلدان المستقلة حديثا، قبورها تمتدّ في صفوف طويلة أنيقة منتظمة، وبينها ممرات مستقيمة مبلطة بعناية وحولها أعشاب قصيرة مشذّبة دائما يعالجها الحارس بالمقرض كلّما زادت صنتيمترا واحدا، تلك المقابر الموحشة الّتي لا يزورها أحد، يظلّ أهلها غرباء في كلّ الأعياد والمواسم، عكس مقابر القرى والعشوائيّات الّتي تهدّمت حجارة أسوارها، ونبت فيها الحشيش والعليق والأشواك والأحساك وتناسلت الأفاعي والعقارب والحشرات،… تمتلئ في الأعياد بالعجائز والصبية، وتمتلئ في كل الأوقات الأخرى بالمتشردين واللصوص والحيوانات السائبة وكلاب الطريق، وصخب الأطفال الذين لا يحلو لهم لعب الكرة إلاّ بجانب المقبرة، وكلّما سقطت الكرة داخلها يركض إليها الصبية ضاجّين فرحين يدوسون جمجمة هذا ورقبة تلك وحوض الآخر ونهود الأخرى، التي لم تعد نهودا ولا حتّى شيئا يدلّ عليها…
حين يحدث كلّ ذلك يشعر الموتى بالأمان، يرتاحون لذلك الصّخب الجميل وتلك الحياة الدّفّاقة على قبورهم فيأنسون وينامون مبتسمين…
أكره البيوت الّتي تشبه مقابر النّصارى، أو هي تشبه المتاحف الأنيقة، المحاطة داخلها التّحف الثّمينة جدّا بحواجز من السلاسل المذهبة أو بعبارات التّحذير اللّطيفة، تلك المتاحف المهيبة التي لا ينصح باصطحاب الأطفال إليها لأنّهم يفسدون وقارها ويزعجون تماثيلها المتجهّمة باستمرار…
أوّل مكان يتدرّب فيه الإنسان على الحياة هو البيت، كلّما تناثرت الجوارب والأثاث داخله والكؤوس والصحون والملاعق في كلّ ركن من أركانه إلاّ وكان ذلك دليلا على تدفّق الحياة داخله مثل أنهار صافية رقراقة تكسر صمت الجليد وهدوءه وبروده…
أحبّ أن أرى كلّ شيء في البيت ينبض بالحياة ويتحرّك ويركض ويقفز ويتشقلب ويلعب الغمّيضة ويفطر في الصّالة ويسكب الزيت على أغلى الزرابي ويكسر أثمن الكؤوس ويتعثّر فيسقط التّحفة الكريهة الغالية جدا، تلك التي تريد أن تبقى خالدة وتعيش بعدي لآلاف السنين بمنتهى التّحدّي والصّفاقة…
حين أدخل إلى البيت بعد حملة النّظافة المشبوهة التي تقوم بها زوجتي من حين لآخر في غيابي خاصّة، يصيبني التوجّس والخوف بمجرّد أن أفتح الباب، وأسير في الكولوار مرتابا قلقا، أحاذر الأثاث وأسترق النّظر إلى الجانبين، وأتفقد الكرسيّ جيّدا قبل الجلوس كي لا أجلس في حجر شبح تسلل فجأة حين شعر بذلك الهدوء والسّكون الرهيب… حين يحين وقت النّوم… أقف مطوّلا قرب فراشي المنظّم بطريقة مريبة أتفحّصه بحذر ثمّ أهمّ به وأتراجع مرارا، أقلب الغطاء واللحاف وأكورهما في شكل مخروطيّ، ثمّ آخذ المخدّة وأفرّ إلى الصّالة حيث أنام على الحشيّة القديمة على الأرضيّة، معلّقا رجليّ معا على طرف الأريكة، واضعا الحاسوب مفتوحا ومبعثرا عند رأسي، محتفظا بكأس الشاي المنتصف ونفّاضة السّجائر الممتلئة عن آخرها إلى جانبي…
تلك حياتي… وتلك قبور النّصارى.
#عبد_اللطيف_علوي
قبور النّصارى

عبد اللطيف علوي