عبد القادر عبار
كلنا يعرف أن الذئب.. الضبع.. السبع.. وبعض زملائهم من وحوش البرية.. إنما خُلِقَ الواحد منهم ليفترس، وأما صاحبنا فيرى أنه إنما خُلِق ليتسوّل، ومقتنع أنه مرشّح وطني للتسوّل.. أي متسوّل مترسّم وبأوراقه.
بعد انتحاره منذ أسابيع بسبب “تأميم التسوّل” حيث رأى أن المشروع يستهدفه.. وُجدت في جيب سرواله ورقات من فئة الـ 50 دينارا جلّها متهرّئة، وعلى ظهر كل ورقةٍ، تدوينة ٌ قصيرة سجّلها بقلم الرصاص مع إمضاء بقلم حبر جاف.. قال الخبراء الإستراتيجيون في أحوال وسيَر المتسوّلين: أن استعمال الحبر الجاف في الإمضاء هو لإثبات ملكيّتها إن ضاعت.
ومن باب الفضول اطلعت على بعض هذه التدوينات فقرأت فيها عجبا :
1. اليوم الاربعاء.. مثّلتُ دور لاجئ سوري قادم من الجزائر.. تدرّبت عليه طويلا حتى أتقنت اللهجة السورية والصيغ التي كنت قد أسمعها أمام الجامع من بعض السوريين أول ما قدموا إلينا، وكان التقمّص مباركا علي إذ كانت “RECETTE” المحصول في يومه الأول 500 دينار.
2. اليوم الخميس.. رأيت أن أوسّع دور تقمّص اللاجئ السوري بما أنه محرّك فعّال ومستدرّ للرأفة والشفقة.. ومحرّك للأيادي المانحة، فاستأجرت بعض صبية الحي، وأرملة تعمل في بيوت الجيران وأغريتهم بقبض أجرة سمينة إن مثلوا معي الدور الذي سألقنهم إياه.
وانتصبت أمام الباب الرئيسي لأحد الجوامع وحولي عائلي المُستأجَرة وأطلقت حنجرتي بمحفوظاتي المؤثرة أرتلها بصوت متهدج حزين كلها شكوى وتلطف واستعطاف، متحدثا عن غربة قهرية وصبية عراة جياع بلا مأوى وعن زوجة مريضة حامل في شهرها الأخير.. وكانت البركة هذه المرة أكثر من الأولى والمحصول الصافي بعد خصم الاستئجار للصبيان والأرملة.. فوق المليون بخمسين دينار.
3. اليوم الجمعة.. تهيأت لدوري الجديد في يوم الجمعة وهو يوم ليس كغيره حيث ازدحام المساجد أكثر وحب الناس للصدقة فيها كبير ومنّيت النفس بمحصول سمين ومرتفع وقلت: يكفي من دور اللاجئ السوري ومِلْتُ إلى دور المعاق المشلول وتدرّبت على تبنّي وجه مجلوط نصفي، فعوّجت فمي وصلّبت يدي اليسرى وتهالكت على كرسي متحرك متهرّي ووضعت في حجري وعاء بلاستيكيا واسعا لتلقّي الصدقات.. وخيّرت أن أظل أخرس..
ولكن ما راعني إلا انصراف الناس إلى متسولين جدد منافسين لي منتصبين عند الباب الآخر فراعني الأمر وصدمني المشهد وأنا أرى الأرملة والصبية الذين اِستأجرتهم قد أعادوا الدور الذي مثلوه معي بالأمس واستدرّوا به عطف المصلين فأفسدوا علي الخطة وحرموني من المحصول.. ولما لمحني عفريت من الصبية صاح باكيا بصوت يفلق الحجر ولهجة سورية رقراقة وهو يشير اليّ: هذا والدنا مجلوط مشلول يا إخوان.. وما نقدر نعالجه.. ارحمونا وساعدونا يا إخوان..” وتهاطلت عليه الأوراق النقدية من جديد، وأما أنا فرشّني البعض بدراهم معدودات.. لم تملا وعائي
ولما انفض الناس وبقينا لوحدنا قلت: هلمّوا يا جماعة نتقاسم الصابّة.. فبصقوا في وجهي ساخرين، وفروا بكنزهم منتشين..
وحدثني البعض ممن اطلع على بقية مذكرات متسوّلنا الوطني المرحوم.. أن فيها ما هو أعجب وأغرب.. فوعْدًا مني.. إن أنا عثرتُ عليها فسوف أتحفكم بعجائبها وغرائبها… ولكن لا تستغربوا أن قلت لكم: عندي مشروع تسوّل يخصّني !.. أكتموا السرّ… !
أريد أن استغني وأعيش يا أخي !!